سعيدة نازي

طالبة باحثة بسلك الدكتوراه

بجامعة محمد الخامس-الرباط

كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية بسلا

 

كلما تعددت حاجات الناس وتشعبت كلما زاد تدخل الدولة أو الإدارة في تنظيم أمور المجتمع، وعندما يزداد تدخلها يتضخم جهازها وإدارتها، بل ويصبح أكثر اتصالا بأمور الناس، وأبعد تأثيرا في حياتهم العامة والخاصة، وحتى تكتمل عناصر الدولة القانونية لابد من وجود تنظيم للرقابة القضائية على مختلف السلطات فيها.

من هذا المنطلق تعد رقابة القضاء الإداري على أعمال وقرارات الإدارة أهم وأجدى صور الرقابة وأكثرها ضمانا لحقوق وحريات الأفراد في مواجهة تعسف الإدارة.

ويبقى مجال الملكية العقارية مجالا حقيقيا يعكس الدور الرقابي والحمائي الذي يمارسه القضاء الإداري على الإدارة من خلال إلزامها باحترام القانون في أعمالها الإدارية والمادية، فالملكية من أوسع الحقوق العينية وأقواها من حيث السلطات التي يمنحها للمالك، إذ يخول لصاحبه سلطة واسعة على الشيء موضوع الحق. 

ونظرا لقدسية هذا الحق فإنه يحرم المساس به ما لم تستدع المصلحة العامة ذلك وفي حدود ما ترسمه القوانين، وهو ما أجمعت عليه معظم الدساتير والتشريعات في العالم بما في ذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن الذي شدد على عدم حرمان أحد منه إلا إذا فرضت ذلك الضرورة العامة.

ونص الفصل الخامس والثلاثين من الدستور المغربي على أن حق الملكية مضمون للقانون أن يحد من نطاقه وممارسته إذا اقتضت ذلك متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، ولا يمكن نزع الملكية إلا في الحالات ووفق الإجراءات التي ينص عليها القانون.

وقد أعاد تكريس نفس المبدأ الفصل الأول من القانون المتعلق بنزع الملكية من أجل المنفعة العامة والاحتلال المؤقت الذي نص على أن: “نزع ملكية العقارات كلا أو بعضا أو ملكية الحقوق العينية العقارية لا يجوز الحكم به إلا إذا أعلنت المنفعة العامة، ولا يمكن إجراؤه إلا طبق الكيفيات المقررة في هذا القانون مع مراعاة الاستثناءات المدخلة عليه كلا أو بعضا بموجب تشريعات خاصة”.

من هنا تبرز لنا أهمية تدخل القضاء الإداري بصفة عامة وقضاء الإلغاء بصفة خاصة كضمانة ضد أنشطة وأعمال الإدارة المتسمة بالشطط في استعمال السلطة، لكن التساؤل الذي يطرح نفسه في هذا المجال هو إلى أي حد يمكن القول أن قضاء الإلغاء خاصة منذ إحداث المحاكم الإدارية قد ساهم فعلا من خلال دوره الرقابي في حماية حق الملكية العقارية؟

هذا ما سنحاول الإجابة عليه من خلال النقط التالية:

المطلب الأول: رقابة قضاء الإلغاء على شرط المنفعة العامة في مجال نزع الملكية

المطلب الثاني: رقابة قضاء الإلغاء على مشروعية القرارات الصادرة في مجال التعمير

المطلب الأولى: رقابة قضاء الإلغاء على شرط المنفعة العامة في مجال نزع الملكية

من خلال هذا المطلب سنتعرف على مفهوم المنفعة العامة في الفقرة الأولى، و في الفقرة الثانية سنقف على تطور الرقابة القضائية على شرط المنفعة العامة.

الفقرة الأولىمفهوم المنفعة العامة

ليس هناك تعريف دقيق وواضح لمفهوم المنفعة العامة ولم يسبق للمشرع المغربي عبر القوانين التي نظمت نزع الملكية من أجل المنفعة العامة أن أعطى تعريفا لهذا المفهوم، بل اكتفى فقط بإعطاء بعض الأمثلة لبعض المشاريع التي تتصف بطابع المنفعة العامة، وذلك من خلال ظهيري 31 غشت 1914 و3 أبريل 1951 المتعلقين بنزع الملكية لأجل المنفعة العامة[1].

أما قانون 81-7 فقد اكتفى بالتصريح فقط بأن نزع الملكية لا يتم إلا إذا أعلنت المنفعة العامة بمرسوم يتخذ بناء على اقتراح من الوزير المعني بالأمر، ولعل هذا راجع إلى عدم إمكانية حصر المنفعة العامة في أعمال محددة، خصوصا وأن مصالح الجماعة متعددة وحاجياتها تتغير بتغير المكان والزمان.

فالمنفعة العامة تتطور بتطور المجتمع وترتبط ارتباطا وثيقا بتدخلات الدولة التي عرفت تزايدا ملحوظا من أجل مواجهة الحاجيات المتعددة للمواطنين في مختلف الميادين، فأصبح مفهوم المنفعة العامة في الوقت الراهن فضفاضا، يتغير بتغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية، ولم يعد نزع الملكية استثناء كما كان من قبل لدى فقهاء الشريعة الإسلامية بل أصبح يشكل القاعدة ومن أهم الوسائل التي تعتمد عليها الأشخاص العمومية لتحقيق التنمية في كل المجالات.

وإذا كان المشرع لم يسع إلى تحديد مفهوم المنفعة العامة فقد انسحبت إرادته إلى جعل المحكمة هي المختصة بتقدير وجود المنفعة العامة من عدمها بل وتقدير درجتها، بدليل أن الفصل الأول من قانون نزع الملكية نص صراحة على أن : “نزع ملكية العقارات كلا أو بعضا أو ملكية الحقوق العينية العقارية لا يجوز الحكم به إلا إذا أعلنت المنفعة العامة…”، واستطرد الفصل الثاني من نفس القانون بأنه يتم نزع الملكية لأجل المنفعة العامة بحكم قضائي.

وتجدر الإشارة إلى أنه لم يسبق للقضاء المغربي أن عرف فكرة المنفعة العامة، مقتنعا بأن هذه الأخيرة تعرف تغيرات وتطورات لا يمكن تحديد إطارها، وكان يكتفيفي كل مرة بالقول أن المشروع المراد إنجازه يبرر أو لا يبرر نزع الملكية انطلاقا من عناصر كل قضية على حدة.

وفي القانون المقارن، يعد القانون الفرنسي الصادر في 1804 أقدم نص استعمل هذا المفهوم -المنفعة العامة- بهذه الصيغة، كما أن التصريح العالمي لحقوق الإنسان والمواطن لسنة 1978 قد استعمل مفهوم الضرورة العامة، وذلك في فصله السابع عشر الذي جاء فيه بأن حق الملكية مقدس ولا يمكن أن يحرم أي أحد منه إلا إذا فرضت ذلك قطعا الضرورة العامة بصورة قانونية وشرط تعويض عادل[2].

أما المشرع القطري فقد نص في قانون نزع ملكية العقارات والاستيلاء عليها مؤقتا للمنفعة العامة على بعض الأعمال التي اعتبرها من ضمن المنفعة العامة على سبيل المثال، وفتح المجال للسلطة التنظيمية لإضافة أعمال أخرى متى اتضح لها أنها ذات منفعة عامة[3]. على عكس القانون الألماني الذي حصر مجال نزع الملكية فيما هو ضروري لتحقيق المشروع المراد إنجازه[4]، وإن كان لم يرد فيه تعبير المنفعة العامة.

الفقرة الثانية: تطور الرقابة القضائية على شرط المنفعة العامة

عرفت رقابة القضاء على شرط المنفعة العامة في قرارات نزع الملكية لأجل المنفعة العامة تطورا ملحوظا موازيا لتطور مضمون المنفعة العامة، فقد مرت هذه الرقابة بمرحلتين:

أولا: الرقابة القضائية التقليدية على شرط المنفعة العامة

لقد تميزت هذه المرحلة برقابة شكلية وضعيفة على عمل الإدارة، وقد عمر هذا الاتجاه منذ قضاء الحماية إذ استقر اجتهاد المحاكم الفرنسية في المغرب على قاعدة مفادها أن تنصب الرقابة على الشكليات التي يحددها القانون فقط، وغالبا ما كانت تبرر المحاكم موقفها بالفصل8 من ظهير التنظيم القضائي لسنة 1913 الذي كان يمنعها من مراقبة مشروعية القرارات الإدارية المصرحة للمنفعة العامة.

في هذا الاتجاه سارت محكمة الاستئناف بالرباط في أحد قراراتها بتاريخ 31 أكتوبر1951 جاء فيه: “أن المحاكم القضائية هي الحارسة الطبيعية لحق الملكية ولذلك تسهر ما أمكن على التطبيق الدقيق للشكليات المنصوص عليها وأن القرارات المصرحة بالمنفعة العامة والصادرة عن السلطة العامة لا تحتمل الإلغاء أمام مجلس الدولة الفرنسي والبطلان الذي يترتب على عدم تنفيذ الشكليات الموضوعة لأجل ضمان حق الملكية إنما هي من النظام العام لذلك يمكن أن يثار حتى بصفة مباشرة وكيف ما كانت حالة المسطرة”.

وأيدت محكمة النقض هذا التوجه إذ اعتبرت سلطة القضاء في مجال نزع الملكية تقتصر على مراقبة الشكليات المنصوص عليها في الفصل الثاني من ظهير 31 غشت 1913 ولا يمكن أن تمتد إلى رقابة مشروعية جوهر القرارات الإدارية.

وظل المجلس الأعلى يتهرب من الدخول في مناقشة قرارات الإدارة حيث وجد ضالته في الدعاوى الموازية لتفادي البث في مشروعية القرارات المعلنة للمنفعة العامة.

وهذا ما نلمسه من قرار صادر عنه بتاريخ 12 شتنبر 1980 جاء فيه: ” حيث أنه بتاريخ 11 أكتوبر 1976 تقدم السيدان… إلى المجلس الأعلى بعريضة يطلبان فيها بسبب الشطط في استعمال السلطة إلغاء المقرر البلدي المستمر رقم 105 الصادر عن باشا مدينة الناظور والمصادق عليه بتاريخ 19 مايو 1976 من طرف عامل الإقليم، وحيث إنه باستطاعتهما المطالبة بالحقوق التي قد تكون لهما في التعويض أمام محاكم الحق العام لهذا فإن طلبهما الرامي إلى إلغاء المقرر المطعون فيه غير مقبول”.

وما يمكن استقراؤه هو أن المجلس الأعلى خلال هذه المرحلة لم يقم بإلغاء أي مقرر لنزع الملكية نظرا لعدم بسط رقابته لا على شرعية قرارات نزع الملكية ولا على مدى ملاءمتها.

ثانيا: الرقابة على شرط المنفعة العامة من خلال نظرية الموازنة

ظلت الرقابة القضائية لشرط المنفعة العامة إلى حدود سنة 1992 ضعيفة وعاجزة عن التصدي لتعسفات الإدارة التي تذرعت في كثير من الأحيان بسلطتها التقديرية، إلا أن بوادر مرحلة الموازنة والمراقبة الإيجابية بدأت تظهر من خلال قرار المجلس الأعلى بتاريخ 1992/2/10 المشهور بقضية شركة ميموزا والتي نجمل وقائعها فيما يلي: “فبعد أن قامت الشركة مالكة العقار المسمى “كرايبا” موضوع الرسم العقاري 8066 بطلب رخصة لإنجاز تجزئة على الأرض المذكورة مساهمة منها في مشروع للتنمية السكنية والقضاء على مدن الصفيح وبعدما قسمت الأرض إلى ثلاثة أجزاء وحصلت بالفعل على الرخصة وحققت التجزئة الأولى منفعة ومبالغ مالية مهمة شرعت في تجهيز القطعة الثانية، لكنها فوجئت بصدور مرسوم معلنا المنفعة العامة ويقضي بنزع ملكيتها، فقامت الشركة بالطعن في القرار طالبة إلغاء المرسوم وقضى المجلس الأعلى بما يلي: “وحيث أن الإدارة إذا كانت تتوفر على السلطة التقديرية في خصوص المنفعة العامة التي تسعى إلى تحقيقها من وراء نزع الملكية فإن ذلك لا يمنع القضاء الإداري من مراقبة مضمون وأغراض المنفعة العامة وما إذا كان المنزوع ملكيته كما هو الحال في النازلة يسعى إلى تحقيق نفس الأغراض والأهداف بموافقة الإدارة المسبقة.

وحيث من كل ذلك أن المنفعة العامة التي تتذرع بها الإدارة لإصدار المرسوم المطعون فيه قد تحققت بالفعل عبر المشروع الذي أنجزت الطاعنة طرفا منه باعتراف الإدارة وموافقتها الواضحة والصريحة مما يجب معه إلغاء المقرر المطعون فيه “[5].

وقد تمسك المجلس الأعلى بموقفه في قرار آخر له بتاريخ 1997/05/07 [6] جاء فيه: “وحيث إن الاتجاه الحديث في القضاء الإداري لا يكتفي بالنظر إلى المنفعة العامة المتوخاة من نزع الملكية نظرة مجردة، بل يتجاوز ذلك إلى النظر فيما يعود به القرار من فائدة تحقق أكبر قدر من المصلحة العامة وذلك عن طريق الموازنة بين الفوائد التي سيحققها المشروع المزمع إنشاؤه والمصالح الخاصة المتعارضة التي يمسها، وبالتالي تقييم قرار نزع الملكية على ضوء مزاياه وسلبياته والمقارنة بين المصالح المتعارضة للإدارة والخواص المنزوعة ملكيتهم”[7] . 

وبذلك يكون المجلس الأعلى من خلال هذين القرارين قد حاول الوقوف على الغرض الحقيقي الذي تستهدفه الإدارة من نزع الملكية، معترفا لنفسه بأحقيته في بسط رقابته لتمتد إلى سلطة الإدارة في اختيار العقارات المراد نزع ملكيتها، ومتخذا من مبدأ الموازنة بين الفوائد التي سيحققها المشروع المزمع إنجازه والمصالح الخاصة التي سيمس بها معيارا لبحث مشروعية قرار نزع الملكية[8]، ويكون المجلس الأعلى بهذا تبنى نظرية الموازنة التي سبق أن طبقها مجلس الدولة الفرنسي منذ 1971 في قضية المدينة الشرقية الجديدة[9]، وبذلك أصبح قضاء الإلغاء فعالا في مجال حماية الملكية العقارية من خلال نظرية الموازنة.

المطلب الثاني: رقابة القضاء الإداري على مشروعية القرارات الصادرة في مجال التعمير

إذا كان المبدأ أن عملية البناء أو إعادة البناء أو حتى إدخال تغييرات وإصلاحات على البناءات القائمةوالتجزئات تخضع حسب مقتضيات المادة 40 من القانون المتعلق بالتعمير[10]، وكذا المادة 2 من القانون المتعلق بالتجزئات العقارية والمجموعات السكنية[11] إلى ضرورة الحصول على ترخيص بذلك، فإنه قد تقع في بعض الحالات أن تكون القرارات التي بمقتضاها يتم منح هذه الرخص، محل طعن أمام جهة القضاء الإداري الذي يتولى البت في مدى مشروعيتها.

الفقرة الأولى: رقابة قضاء الإلغاء على قرارات الترخيص بالبناء

عندما يستجمع طلب رخصة البناء كافة الشروط المتطلبة قانونا، فإن تسليم رخصة البناء يكون حقا لطالبها وليس امتيازا له[12] ، فمن المسلم به أن طلب الحصول على رخصة البناء الذي يحترم جميع النصوص القانونية الجاري بها العمل ووثائق التعمير، وغير ذلك من القوانين التنظيمية، يكون مصيره القبول، إلا أن الإدارة المحلية أحيانا قد تفسر تلك القوانين والنظم تفسيرات غير تلك التي أرادها لها المشرع، فتقوم بناء على هذه التفسيرات برفض طلب الحصول على الرخصة، فيكون مصير قرارها في مثل هذه الحالة الإلغاء.

فكما هو معلوم لا يمكن للإدارة رفض تسليم رخصة البناء إلا للأسباب المستخلصة من أحكام القانون المتعلق بالتعمير والمراسيم التنفيذية المطبقة له، خصوصا الأحكام الواردة في تصاميم التنطيق وتصاميم التهيئة، بالإضافة إلى إخلال الطالب بوجوب الحصول على الرخص المنصوص عليها في تشريعات خاصة بعد أخد الآراء والحصول على التأشيرات المقررة بموجب الأنظمة الجاري بها العمل.

وفي حالة الرفض لغير هذه الأسباب سواء أكان هذا الرفض صريحا أو ضمنيا، فإنه يمكن للمعني بالأمر أن يتوجه إلى القاضي الإداري لإلغاء قرار الرفض، خاصة وأن الحق في البناء هو أحد أوجه ممارسة الحق في الملكية المنصوص عليه في الدستور، وفي ذلك قضت المحكمة الإدارية بالرباطبمايلي: “وحيث إن لكل مواطن الحرية الشخصية الكاملة للتصرف في ملكه وفق ما حدده الفصل15 [13] من دستور المملكة، ما لم تقيد حريته هذه القوانين الجاري بها العمل، وحيث إنه من جهة أخرى، فإن السينما موضوع القرار المطعون فيه ليست مصنفة ضمن المعالم الثقافية أو الأثرية التي تسعى المحافظة عليها…

وحيث إنه أمام هذه المعطيات، فإن القرار المطعون فيه يعتبر مشوبا بتجاوز السلطة لعيبي مخالفة القانون وانعدام السبب مما يتعين التصريح بإلغائه”[14].

وهو نفس التوجه الذي سلكته المحكمة الإدارية بمكناس في حكم لها بتاريخ 2008/08/27 جاء فيه: “حيث يرمي الطلب إلى الحكم بإلغاء القرار الإداري الرامي إلى رفض تمكين المدعي من رخصة البناء تخوله تسييج بقعته الأرضية…

وحيث عللت الإدارة…امتناعها عن منح رخصة التسييج بكون القطعة المذكورة مخصصة في تصميم التهيئة لإعداد سوق أسبوعي، وبأنها شرعت في اقتناء القطعة بسلوكها لمسطرة نزع الملكية…

وحيث إنه أمام عدم إدلاء الإدارة بالمطلوب منها لتبرير قرار منع التسييج، تكون بذلك قد قيدت حق الملكية دون أي أساس قانوني، ويكون عملها هذا مخالفا للقانون ومآله الإلغاء”[15].

وإذا كان المشرع المغربي قد ألزم السلطات العمومية بتعليل قرار رفض الإذن بإحداث التجزئة العقارية، فإنه بالمقابل لم يلزم الإدارة بتعليل قرار رفض الترخيص بالبناء أو تأجيل البت في الطلب طبقا لقانون 12-90 اللهم ما كان من المادة 45 منه[16] ، إلا أن القضاء الإداري دأب على الحكم بإلغاء قرارات رفض الترخيص بالبناء كلما جاءت خالية من التعليل، وفي هذا الصدد قضت المحكمة الإدارية بالرباط في أحد أحكامها بتاريخ 2000/02/03 بإلغاء القرار المطعون فيه معللة ذلك بقولها :”حيث إنه من المتفق عليه فقها وقضاء أنه لابد لكل قرار إداري من سبب والسبب هو تلك الوقائع المادية التي تبرر صدوره، وعلى الإدارة إثبات ذلك، وإلا اعتبر تصرفها تجاوزا في استعمال السلطة يبرر الإلغاء”[17].

ومن جهة أخرى، فإن الجهة المانحة للترخيص بالبناء لها الحق في سحبه، لكن ذلك السحب يجب أن ينصب على قرار غير مشروع، وأن يتم السحب قبل أن يتحصن القرار بمضي المدة المخصصة للطعن فيه أمام القضاء، والمحددة في 60 يوما، أما أن يتم سحب الترخيص المشروع خارج أجل الطعن، فذلك يشكل تجاوزا في استعمال السلطة وموجبا لإلغاء قرار السحب لعيب مخالفة القانون.

وهذا ما عملت المحاكم الإدارية على ترسيخه من خلال العديد من الأحكام الصادرة في هذا المجال، ومن ذلك مثلا حكم المحكمة الإدارية بالرباط الصادر بتاريخ 1998/06/11[18] الذي جاء فيه: “وحيث يهدف الطلب الحكم بالإلغاء القرار الصادر عن رئيس المجلس البلدي لتبريكت القاضي بسحب رخصة البناء والتي سبق أن سلمها للمدعية…فإن العمل القضائي استقر على جعل شروط سحب القرار الإداري، تتجلى في أن ينصب السحب على قرار غير مشروع وأن يتم داخل أجل الستين يوما المقرر لدعوى الإلغاء.

وحيث أن سحب القرار المتعلق بمنح رخصة البناء في النازلة الحالية قد تم بعد مضي أزيد من ثمانية أشهر على تاريخ صدوره، فإن هذا السحب يكون قد مس بحق مكتسب للطاعنة، ومتسما بتجاوز السلطة لعيب مخالفة القانون ويتعين التصريح بإلغائه”[19].

الفقرة الثانية: رقابة قضاء الإلغاء على قرارات تجزيئ الأراضي

إذا كان المشرع المغربي قد منح سلطات واسعة للإدارة في اتخاذها لقرارات قبول أو رفض طلبات الحصول على تراخيص بإحداث التجزئات العقارية، وإذا كان قرار منح هذه الرخصة يعتمد على مسطرة معينة وشروطا ووثائق خاصة، فإن قرار رفض الترخيص يجب أن يكون قانونيا ومعللا بالأسباب التي تبرره[20] على اعتبار أن ذلك من الضمانات القانونية التي منحها المشرع للمجزئين العقاريين والتي تمكن صاحب الطلب من الاستجابة للملاحظات التي كانت سببا في رفض طلبه.

ويجب أن يكون التعليل جديا وواضحا بما فيه الكفاية، أما إذا تضمن القرار عللا عامة مبهمة وغامضة أو ناقصة اعتبر القرار خاليا من الأسباب شكلا وتعرض للإلغاء[21] .

وتجدر الإشارة إلى أنه يمكن للمجزء أن يحصل على موافقة ضمنية لإحداث تجزئة بعد انصرام أجل ثلاثة أشهر من تقديم طلب إحداثها دون الحاجة إلى إجبار رئيس المجلس الجماعي على تسليم الإذن بالتجزيئ، وهذا ما ذهبت إليه المحكمة الإدارية بالرباط في حكم لها بتاريخ 1995/06/18عندما قضت بعدم قبول الطلب الرامي إلى الحكم على رئيس المجلس البلدي بتسليم رخصة تجزئة بعد مرور مدة ثلاثة أشهر على تقديم الطلب معللة ذلك بأن: “سكوت رئيس المجلس البلدي عن الجواب على طلب رخصة التجزئة العقارية لا يعتبر رفضا وإنما يعتبر قبولا ضمنيا طبقا لمقتضيات المادة الثامنة من ظهير 1992/06/17 بشأن التجزئات العقارية…”[22]، غير أن مرور الأجل الضمني لا يخول المستفيد الإذن الضمني إلا إذا كان الطلب في وضعية نظامية حيال ضوابط التعمير وتصاميم التهيئة[23]، وأن يكون ملف مشروع التجزئة مستوفيا لكافة الشروط التقنية والقانونية والوثائق والمستندات المطلوبة.

هذا ولا تتردد المحاكم الإدارية في إلغاء قرارات الإدارة القاضية برفض تسليم الترخيص بإحداث التجزئة متى جاء جوابها خارج الأجل المحدد قانونا لذلك، كما يبقى من حق هذه المحاكم كذلك أن تقوم بإلغاء قرارات سحب رخص التجزيئ التي تتراجع عنها الإدارة، متى تبت للمحكمة أن قرار السحب هذا جاء متسما بالتجاوز والشطط في استعمال السلطة، أو أن هذا السحب جاء خارج أجل الطعن أو منعدم السبب، إلى غير ذلك من أسباب إلغاء القرارات الإدارية[24].

و في الختام، لابد من الإشارة إلى أنه غالبا ما تثار بعد الحصول على رخصة البناء والتجزئة نزاعات أخرى تتصل في الغالب بالأشغال المراد إقامتها – سواء تلك التي في طور الإنجاز أو التي تم فعلا إحداثها والانتهاء من إقامتها- خاصة في الحالة التي يكون فيها إخلال من جانب المعني بهذه الرخصة وعدم التقيد بضوابط التعمير والجمالية، الأمر الذي يستدعي في الغالب تدخل السلطات المختصة لتصحيح هذه الأوضاع المختلة عن طريق اتخاذ قرارات تكون في شكل قرارات بإيقاف الأشغال أو الهدم.


[1] – كإحداث الموانئ والمطارات والطرق والسكك الحديدية أو الأشغال والعمليات حضرية أو تهيئة الغابات والمحافظة على المناظر…

[2] – أحمد أجعون، اختصاصات المحاكم الإدارية في مجال نزع الملكية من أجل المنفعة العامة، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في القانون العام، جامعة محمد الخامس-أكدال بالرباط،2000-1999 ، ص 359.

[3] – أنظر المادة 3 من القانون القطري رقم 13 لسنة 1988 بشأن نزع ملكية العقارات والاستيلاء المؤقت.

[4] – باجي البشير، شرح قانون نزع الملكية في ضوء القانون المغربي والقضاء والفقه والتطبيق، الطبعة الأولى 1991، ص124.

[5] – قرار المجلس الأعلى رقم 378 بتاريخ 1992/2/10 في الملف رقم10023 .

[6] – قرار المجلس الأعلى رقم 500 في الملف الإداري رقم 95/63، مجلة قضاء المجلس الأعلى،عدد 51، دجنبر 2000، ص 190.

[7] – وهناك العديد من القرارات الأخرى التي أخذ فيها المجلس الأعلى بنظرية الموازنة نذكر منها على سبيل المثال :

– القرار رقم 119 بتاريخ 1998/02/19 في الملف الإداري رقم 95/1/5/547، أشار إليه عبد الله حداد، قطاع الإسكان بالمغرب دراسة قانونية وقضائية، منشورات عكاظ، يناير2004، ص .174

 – القرار رقم 855 بتاريخ2003/12/04 في الملف الإداري رقم 2000/184، منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى، عدد 62، دجنبر 2004، ص 142.

[8] – أحمد أجعون، تطور رقابة المجلس الأعلى على شرط المنفعة العامة في موضوع نزع الملكية، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عدد مزدوج 39-39، ماي-غشت 2001، ص141.

[9] – للإطلاع على وقائع هذه القضية راجع :

 – نبيلة عبد الحليم كامل، دور القضاء الإداري في الرقابة على شرط المنفعة العامة في مسطرة نزع الملكية، دار النهضة العربية-القاهرة، 1993، ص 17 وما بعدها.

 – رشيد بوسكوري،”شرط المنفعة العامة في مسطرة نزع الملكية بين سلطة القضاء واكراهات الواقع”، الندوة الجهوية الثانية المنظمة تحت عنوان “قضايا العقود الإدارية ونزع الملكية للمنفعة العامة وتنفيذ الأحكام من خلال اجتهادات المجلس الأعلى” بالمركب الإصطيافي لوزارة العدل بمراكشيومي 21 و 22 مارس 2007، ص 227 وما بعدها.

[10] – القانون رقم 90-12 الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.92.31 بتاريخ 15 من ذي الحجة 1412موافق 17يونيو 1992.

[11] – القانون رقم 90-25 الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.92.7 بتاريخ 15 من ذي الحجة 1412موافق 17يونيو 1992، المنشور في الجريدة الرسمية عدد 4159 بتاريخ 14 محرم 1413 موافق15 يوليوز1992 .

[12]– Abderrahmane Al Bakriwi, Le permis de construire au Maroc, Mémoire de D.E.S en droit public, université de Paris 1974, p 64.

[13] – بموجب التعديل الدستوري لسنة 2011 أصبح هذا الفصل هو الفصل الخامس والثلاثين.

[14] – حكم المحكمة الإدارية بالرباط عدد 189 بتاريخ 1996/07/04، ميلود بوطريكي، منازعات رخصة البناء بين اختصاص القضاء الإداري والقضاء العادي، مجلة الرقيب، عدد2، نونبر 2013، ص42.

[15] – حكم المحكمة الإدارية بمكناس عدد 2008/353غ بتاريخ 2008/08/27 في الملف رقم 3/2007/92غ (غير منشور).

[16] – تنص هذه المادة على أنه :”إذا كان الغرض المخصصة له الأراضي غير محدد في تصميم التهيئة أو في تصميم التنطيق يجوز لرئيس مجلس الجماعة بعد استطلاع رأي الإدارة المكلفة بالتعمير أن يقوم داخل دوائر الجماعة الحضرية والمراكز المحددة والمناطق ذات الصبغة الخاصة :

– إما بتأجيل البت في طلبات رخص البناء، ويكون التأجيل مسببا ويجب ألا تتعدى مدته سنتين؛

– وإما بتسليم رخصة البناء إذا كان المبنى المزمع إقامته يتلاءم مع أحكام مخطط توجيه التهيئة العمرانية…”

[17] – حكم المحكمة الإدارية بالرباط عدد 151 بتاريخ 2000/02/03 في الملف رقم 96/603غ، الشريف البقالي، رقابة القاضي الإداري على مشروعية القرارات الصادرة في مجال التعمير، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية2012، ص203.

[18] – حكم عدد 610 في الملف رقم 97/1267غ، محمد الأعرج، الجماعات الترابية والمنازعات المترتبة عن تطبيق قانون التعمير، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة مواضيع الساعة، الطبعة الثانية 2013، ص 202.

[19] – أنظر كذلك حكم نفس المحكمة عدد 923 بتاريخ 2001/11/23، في الملف رقم 01/33غ، ميلود بوطريكي، مرجع سابق، ص 44.

[20] – تنص المادة 7 من قانون 25.90 على أنه “يجب أن يكون رفض الإذن في القيام بالتجزئة معللا بالأسباب التي تبرره.

ويرفض الإذن بالتجزئة بوجه خاص إذا كان العقار المراد تجزئته غير موصول بشبكات الطرق والصرف الصحي وتوزيع الماء الصالح للشرب والكهرباء، وذلك دون الإخلال بأحكام المادة 21 من هذا القانون.” 

[21] – الشريف البقالي، مرجع سابق، ص 171.

[22] – حكم المحكمة الإدارية بفاس عدد 2000/887 بتاريخ 2000/12/05 في الملف رقم 2000/50غ، نور الدين عسري، حل النزاعات في مجال التجزئات العقارية، مجلة الدفاع، عدد 4، شتنبر 2005، ص 56.

[23] – حكم المحكمة الإدارية بالرباط عدد 1427 بتاريخ 97/11/5 في الملف رقم 97/22غ، أشار إليه الشريف البقالي، مرجع سابق، ص 163.

[24] – راجع بهذا الخصوص مثلا حكم المحكمة الإدارية بالرباط عدد 1271 بتاريخ 1997/04/09 في الملف رقم 97/875غ، الحاج شكرة، مرجع سابق، ص243 .

الأكثر رواجًا