كريمة هوري

طالبة باحثة في ماستر القضاء الإداري

بكلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية بسلا

مقدمة :

مما لا شك فيه أن القرار الإداري هو نظرية فقهية وقضائية، وهذه الخاصية جعلت منه ظاهرة مستعصية ومعقدة يصعب الحسم فيها بإعطائها تعريفا شاملا يقنع المتخصصين في المجال، ويحد من ظاهرة الغموض التي يتميز بها هذا التصرف الإداري.

وكما هو معلوم في الدراسات العلمية وخصوصا القانونية، أن كل مفهوم ناقص وغامض يفتح المجال لتضارب مواقف الفقهاء واختلاف اتجاهاتهم وقناعاتهم، وبالتالي ميلاد معايير مختلفة في تحديد هذا المفهوم، ولكل اتجاه فقهي مبرراته العلمية والعملية. ومن هذه المفاهيم نجد مفهوم القرار الإداري الذي كان ولازال موضع نقاش وخلاف فقهي من أجل تحديد مفهومه.

فالقرار الإداري هو أهم وسيلة من وسائل النشاط الإداري، لأن الإدارة هي الوحيدة التي لها الحق في الاستفادة منه في مواجهة المتعاملين معها. لكن هذا صحيح مبدئيا إن كان المعيار الوحيد المعتمد في تمييز القرارات الإدارية هو المعيار الشكلي، لأن في هذه الحالة سنكتفي بتحديد الجهاز أو الهيئة التي أصدرت القرار ونعكس طبيعته على طبيعتها. لكن الإشكال الأكبر هو كون المعيار المادي يستبعد ضرورة تحديد الجهاز الذي أصدر القرار وينظر إلى “طبيعة القرار وموضوعه”، وهو بذلك يجيز منح صفة القرار الإداري على قرارات تصدر من أجهزة غير إدارية أو حتى الخاصة.

وكما هو معلوم أن الدولة لها ثلاثة وظائف رئيسية: الوظيفة الإدارية، الوظيفة التشريعية ثم الوظيفة القضائية. هذه الوظائف سنقوم بالتمييز بينها على أساس المعيار الشكلي لمعرفة طبيعتها وللوصول إلى قناعة مفادها كفاية اعتماد المعيار الشكلي في تمييز القرارات الإدارية أم عدم كفايته.

ثم الانتقال إلى المعيار الموضوعي لاعتماده في التمييز بين القرارات الإدارية.

يبدو إذن أننا سنحاول معرفة من المدرسة الأحق بالتبني هل هي المدرسة الشكلية، أم أن المدرسة الأحق هي المدرسة المادية (الواقعية) حسب رأينا؟ ثم الخروج باستنتاج مهم مفاده، المعيار الذي يأخذ به المشرع المغربي في تمييز القرارات الإدارية، وداوفعه في ذلك.

والجدير بالذكر أن الخطوات التي اتبعناها في تحليل هذا الموضوع اعتمدها André De Laubadére و كذلك Chapus وغيرهم في مؤلفاتهم.

وباعتبار القرار الإداري أهم وسيلة من وسائل الإدارة التي تعتمد عليها في القيام بنشاطها وباعتباره وسيلة تمثل تهديدا لحقوق المواطن، فإنه كان من اللازم أن يتم تمييزه عن باقي الأعمال الصادرة سواء عن باقي سلطات الدولة أو عن الأعمال التي تتخذها بعض أشخاص القانون الخاص، بالاعتماد على المعيار الشكلي و الموضوعي. وهذا ما جعلنا نتساءل حول الأسس التي ينبني عليها كل معيار؟ ومدى فعاليته في تمييز القرارات الإدارية؟ وعلى أي أساس يمكن اعتبار قرارات بعض الهيئات الخاصة قرارات إدارية؟

لذلك سنحاول من جانبنا المتواضع أن نحدد المعيار الأجدر بالاعتماد، الشكلي أم الموضوعي، معتمدين على المنهج المقارن بين المدرستين وأيضا على المنهج البنيوي وحتى الوظيفي.

    •مبررات اعتماد المناهج الاجتماعية:

مما لا شك فيه أن لكل دراسة منهج ولكل منهج خطوات، وما يؤكد هذا، التعريف الذي أعطاه ديكارت للمنهج عندما قال ” المنهج هو مجموعة من الخطوات إذا اتبعها العقل أمن نفسه من الوقوع في الخطأ”

المنهج المقارن:

يفيدنا هذا المنهج في مقارنة أجهزة الدولة ومقارنة وظائفها.

المنهج البنيوي:

سيفيدنا هذا المنهج في دراسة بنية أجهزة الدولة المتمثلة في الجهاز الإداري والجهاز التشريعي، ثم الجهاز القضائي، وحتى الأجهزة الخاصة وهذا ينطبق كثيرا على المدرسة الشكلية.

المنهج الوظيفي:

سنعتمد عليه في معرفة وظائف أجهزة الدولة و الهيئات الخاصة، إذ بالاعتماد عليه سنتمكن من معرفة الوظيفة التي يبتغيها القرار عند إصداره والمجال الذي يدخل فيه.

وللوقوف على هذه الإشكالية ومحاولة الإجابة عليها سنتبع التصميم التالي:

المبحث الأول: المعيار الشكلي في تمييز القرارات الإدارية

المطلب الأول: تمييز القرار الإداري عن العمل التشريعي والقضائي

المطلب الثاني: تمييز القرارات الإدارية عن اعمال أشخاص القانون الخاص

المبحث الثاني: المعيار الموضوعي في تمييز القرارات الإدارية

المطلب الأول: تمييز القرارات الإدارية عن الأعمال التشريعية والقضائية

المطلب الثاني: تمييز القرار الإداري عن أعمال الأشخاص الخاصة و باقي أعمال الإدارة الأخرى.

المبحث الأول: المعيار الشكلي في تمييز القرارات الإدارية

يقتضي تمييز القرار الإداري عن غيره من الأعمال القانونية – حسب المعيار الشكلي – أن تكون كل هيئة قانونية مستقلة عن غيرها من الهيئات داخل الدولة، حيث تختص كل سلطة بوظيفة مستقلة ومحددة بالقانون. وهنا نكون أمام سيادة “مبدأ فصل السلطات”، الذي يعتبر من أهم الركائز الأساسية داخل النظم الديمقراطية الحديثة، فتختص السلطة التشريعية بمهمة التشريع، والسلطة القضائية بإصدار الأحكام، ثم السلطة التنفيذية التي يعهد إليها بمهام التنفيذ والإدارة. إلا أن الفصل لا يعني بالضرورة الاستقلال والفصل التام بقدر ما يعني نوعا من التداخل والتكامل والانسجام بين هاته السلط، تحقيقا للصالح العام.

إن مقتضيات الملائمة والفعالية في عمل سلطات الدولة الحديثة لا تجعل هناك مجالا لتطابق التقسيم الوظيفي لمهام الدولة والتقسيم العضوي لسلطاتها على وجه مطلق يمكن معه فصل أعمال كل سلطة عن أعمال السلط الأخرى فصلا مطلقا وجامدا. فالسلطة التشريعية تقوم في بعض الأحيان بأعمال إدارية بطبيعتها كاعتماد الميزانية مثلا، وقد تقوم أيضا بعمل قضائي حيث تفصل في صحة نيابة أعضاء لجان البرلمان. والسلطة التنفيذية قد تقوم بالفصل في نزاع عن طريق اللجان الإدارية ذات الاختصاص القضائي، كما أنها قد تقوم بإصدار لوائح أو مراسيم تشترك في مضمونها مع القوانين الصادرة عن السلطة التشريعية، والسلطة القضائية يمكن من جهتها أن تمارس أعمالا إدارية لا تتوافر على صفة العمل القضائي مثل الأعمال المتعلقة بموظفي الهيئات القضائية.

إضافة إلى الهيئات السالفة الذكر هناك هيئات قانونية أخرى يمكن تصنيفها ضمن أشخاص القانون الخاص، لكن المشرع منحها بعض امتيازات السلطة العامة قد تصدر بدورها أعمالا وتصرفات قانونية يمكن أن تدخل في صلب الوظيفة الإدارية.

هذا ما ذهب إليه الفقيه yves GAUDMET حيث يقول “إذا كان العمل الإداري يعرف بأنه ذلك العمل الذي يصدر عن أجهزة الإدارة في الدولة أو عن أشخاص القانون العام، فإن هذه النظرية تجعلنا نخوض في البحث عن الأجهزة التي لها الصفة الإدارية ومقارنتها مع باقي أجهزة الدولة الأخرى، التشريعية و القضائية، وكذا الهيئات الخاصة التي تخرج عن القاعدة عندما تصدر قرارات ذات طبيعة إدارية”.

إذن هذا التداخل بين الأعمال أو التصرفات القانونية لمختلف السلطات والهيئات يحيلنا على ضرورة التمييز بين القرار الإداري عن غيره من الأعمال المشابهة له سواء تعلق الأمر بالعمل التشريعي والقضائي (مطلب أول) أو عمل هيئات القانون الخاص (مطلب ثاني).

المطلب الأول: تمييز القرار الإداري عن العمل التشريعي والقضائي

إن التمييز بين القرار الإداري – باعتباره عملا صادرا عن سلطة إدارية – والعمل التشريعي من جهة وبينه وبين عمل القضائي من جهة ثانية له أهمية بالغة، فالأول يمكن طلب إلغائه أمام قضاء الإلغاء أما القوانين والأحكام فلا يمكن الطعن فيها إلا بالطرق الدستورية والتشريعية المقررة لذلك. ولذلك سنتناول بالتفصيل تمييز القرار الإداري عن العمل التشريعي (فرع أول) ثم القرار الإداري والعمل القضائي (فرع ثان).

الفرع الأول: القرار الإداري والعمل التشريعي

كما أسلفنا الذكر فإن للتمييز بين القرارات الإدارية والأعمال التشريعية أهمية كبيرة، من حيث تحديد الجهة المختصة بالنظر إلى الطعون التي قد توجه ضد كل من العملين، فالقرارات الإدارية يمكن طلب إلغائها والتعويض عنها أمام القضاء الإداري، وعلى العكس من ذلك فإن القوانين لا يمكن الطعن فيها إلا بالطريق الدستوري المقرر.

فالتمييز بين العملين حسب المعيار الشكلي أو العضوي يقوم على أساس النظر إلى الجهة التي صدر عنها العمل أو التصرف بصرف النظر عن موضوع العمل ومضمونه، فالأعمال التشريعية حسب هذا المعيار هي الأعمال الصادرة عن البرلمان بينما تعتبر الأعمال الصادرة عن السلطة التنفيذية قرارات إدارية.

وبالرغم من بساطة هذا المعيار وسهولة تطبيقه في الواقع العملي إلا أنه تعرض لبعض المآخذ التي تمثلت في أنه يعتمد أساسا على مبدأ فصل السلط والذي يقضي بتحديد وظيفة لكل سلطة من السلط الثلاث: التشريعية، التنفيذية والقضائية وأن الأخذ بهذا المعيار يتطلب الفصل التام والمطلق بين هذه السلط بيد أن الواقع العملي وطبيعة العمل الإداري المرنة والمتطورة تقتضي أحيانا كثيرة التداخل بين وظائف واختصاصات السلط السالفة الذكر.

فالمعيار الشكلي يعتبر العمل تشريعيا إذا كان صادرا من السلطة التشريعية حتى ولو تعلق موضوعه بحالة أو بحالات فردية أو بشخص معين بذاته أو بأشخاص معينين بذواتهم.

وكذلك فإن العمل يعتبر إداريا إذا صدر عن السلطة الإدارية حتى ولو تضمن قواعد عامة ومجردة على غرار القوانين الصادرة من البرلمان مثل اللوائح والقوانين التنظيمية التي تصدرها السلطة التنفيذية وفقا لما يحدده الدستور.

هذا ما يمكن قوله إجمالا عن تمييز القرار الإداري عن العمل التشريعي انطلاقا من المعيار الشكلي، فماذا عن العمل القضائي؟

الفرع الثاني: القرار الإداري والعمل القضائي

يترتب أيضا على التمييز بين القرارات الإدارية والأعمال القضائية نتائج بالغة الأهمية، فكل منها يخضع لنظام قانوني مختلف، فإذا كانت القرارات الإدارية قابلة للإلغاء (عن طريق القضاء) أو التعديل أو السحب فإن الأحكام القضائية طرق الطعن فيها محددة تشريعيا على سبيل الحصر كالاستئناف أو التعرض أو النقض. وإذا كان هذا من أوجه الاختلاف بينهما فإن كلا من القضاء والإدارة يشتركان في سعيهما الحثيث نحو تطبيق القانون وتنفيذه على الحالات الفردية فهما ينقلان حكم القانون من العمومية والتجريد إلى الخصوصية والواقعية وذلك بتطبيقه على الحالات الفردية. ويظهر التشابه بينهما أيضا في أن الإدارة شأنها شأن القضاء تسهم في بعض الحالات بالفصل في المنازعات من خلال نظرها في تظلمات الأفراد وفي الحالتين يكون القرار الصادر من الإدارة والحكم القضائي الصادر عن السلطة القضائية أداة لتنفيذ القانون.

وللتمييز بين العملين الإداري والقضائي حسب المعيار الشكلي أي الاستناد إلى الجهة أو الهيئة التي يصدر عنها التصرف فإن العمل الإداري هو ذلك العمل أو القرار الذي يصدر عن فرد أو هيئة تابعة لجهة الإدارة بصرف النظر عن مضمون وطبيعة ذلك العمل أو القرار ذاته. بينما يعد العمل قضائيا إذا صدر عن جهة منحها القانون سلطة القضاء وفقا لإجراءات معينة بصرف النظر عن مضمون وطبيعة العمل.

لكن هذا المعيار منتقد من ناحيتين:

الأولى أن جل الأعمال الصادرة عن السلطة القضائية لا تعتبر أحكاما، بل منها ما يعتبر أعمالا إدارية بطبيعتها كالأعمال الداخلة في وظيفة القاضي كتأديب بعض الموظفين التابعين للمحكمة.

أما الثانية فالقرارات التي تصدر عن الهيئات الإدارية ذات الاختصاص القضائي تعتبر قرارات إدارية وليست قضائية تبعا لصدورها عن سلطة إدارية رغم أنها في مضمونها تفصل في نزاع.

المطلب الثاني: تمييز القرار الإداري عن أعمال أشخاص القانون الخاص

تجدر الإشارة قبل كل شيء إلى أن هناك صعوبة في تحديد الطبيعة القانونية لأشخاص القانون الخاص. فقد يعهد المشرع إلى إنشاء بعض الهيئات لإدارة المرافق الاقتصادية ويمنحها امتيازات السلطة العامة دون أن تعتبر مع ذلك مؤسسات عامة، وقد يعهد المشرع أيضا بتسيير المرفق العام إلى هيئات خاصة، وتزداد المشكلة صعوبة مع تزايد الهيئات الخاصة التي لا تدير مرافق عامة وإنما تمارس نشاطا يمثل فائدة عالية تبرر إضفاء صفة النفع العام عليها. فيثور البحث عن معيار يميزها عن المؤسسات العامة التي تخضع لأحكام القانون العام. والمبدأ في التمييز بين الهيئات الخاصة والمؤسسات العامة يتلخص في أن القاضي يبحث عن نية السلطات العامة عند إنشاء الهيئة محل اعتبار، هل أرادت إنشاء مؤسسة عامة أو مجرد هيئة خاصة لمباشرة نشاط ذي نفع عام.

إن الإشكال الذي يطرحه هذا النوع من الهيئات هو قراراتها، هل يمكن اعتبارها قرارات إدارية وبالتالي إمكانية الطعن فيها أمام الجهات المختصة أم أن قراراتها تخضع للقانون الخاص؟

وبالرجوع إلى الأصل فإننا نجد أن فكرة صدور قرارات إدارية عن أشخاص القانون الخاص ترجع إلى أحكام مجلس الدولة الفرنسي، وقراراته في هذا المنوال كثير ومتنوعة نتيجة لتنوع الدور الذي تقوم به هذه الأشخاص في محيط النشاط المتعلق بتسيير المرفق العام وخاصة مع ظهور هيئات خاصة تتولى القيام بتنفيذ مهام المرفق العام، أو قيامها بأعمال ذات نفع عام.

ولعل أبرز هذه الأحكام هو حكم مجلس الدولة الفرنسي في قضية مؤسسة Etablissements Vezia الصادر في 20 دجنبر 1935 الذي اعتبر قرارات الهيئات الزراعية التعاونية التي أنشئت في المستعمرات الفرنسية فيما وراء البحار لتطوير الزراعة وفقا للأساليب الفنية الحديثة بمثابة قرارات إدارية، على أساس أن نشاط هذه الهيئات يعتبر مرفقا عاما منحها المشرع في إدارته بعضا من وسائل القانون العام.

وبالتالي فإن مجلس الدولة الفرنسي اعترف للهيئات الخاصة بالطابع الإداري للقرارات الصادرة عنها متى استخدمت هذه الأشخاص امتيازات السلطة العامة تلبية لاحتياجات المصلحة العامة.

وعلى العكس من ذلك فإن المشرع المصري ذهب إلى القول أن القرارات الصادرة من أشخاص القانون الخاص، أفرادا كانوا أم جمعيات أو هيئات أو شركات خاصة لا تعد من قبيل القرارات الإدارية وبالتالي لا يمكن الطعن فيها بالإلغاء أمام مجلس الدولة. هذا من حيث المبدأ العام، مع ورود بعض الاستثناءات بتحديد القانون.

أما اجتهاد القضاء الإداري المغربي سواء منه ما يخص اجتهادات المجلس الأعلى أو المحاكم الإدارية فهو لم يستقر على موقف موحد فنجده أحيانا في بعض القرارات يتشبث بالمعيار الموضوعي أي الجهة مصدرة القرار في تحديد القرار الإداري القابل للطعن وبالتالي عدم قابلية قرارات أشخاص القانون الخاص للطعن بالإلغاء وأحيانا أخرى تراجع عن هذا الموقف واشترط أن تتوفر هذه القرارات على شرطين أساسيين على الأقل: أن يكون القرار مرتبط بتسيير مرفق عمومي واستعمال أساليب السلطة العامة في تنفيذ مهام المرفق العام.

وتطبيقا للقاعدة التي يضعها المعيار الشكلي أي وجوب تحديد الجهة التي صدر عنها العمل أو التصرف، فإن القرار الإداري هو ذلك العمل الإداري الذي يصدر عن أجهزة الإدارة في الدولة وعن أشخاص القانون العام. وبالتالي فإن قرارات الهيئات الخاصة تخرج عن هذه القاعدة عندما تقوم بإصدار قرارات لا يمكن وصفها بالإدارية حسب هذا المعيار. وهذا يعد تناقضا ومأخذا على المعيار الشكلي أو العضوي مما يحيلنا على معيار آخر يعتمد أساسا على طبيعة العمل وموضوعه بصرف النظر عن الجهة التي أصدرته.

المبحث الثاني: المعيار الموضوعي في تمييز القرارات الإدارية

إذا كان المعيار العضوي يميز بين مختلف الأعمال التي تقوم بها الدولة على أساس الهيئة التي تقوم بالعمل، فإن المعيار الموضوعي لا يهتم بالجهة التي أصدرت العمل بل بطبيعة هذا العمل، وهكذا فإن هذا المعيار سمح بإضفاء الصبغة الإدارية على مجموعة من القرارات الصادرة سواء من جانب بعض هيئات الدولة (السلطة التشريعة، السلط القضائية)(المطلب الأول)، أو من جانب بعض أشخاص القانون الخاص (المطلب الثاني).

المطلب الأول: تمييز القرارات الإدارية عن الأعمال التشريعية والقضائية

يعتبر دوجي، جيز، سل وبونار من أبرز رواد المدرسة الواقعية هذه المدرسة التي ترى أن المعيار الشكلي يقف فقط عند حد الشكليات و لا يهتم بطبيعة الأعمال وجوهرها، أما المدرسة الواقعية ( الموضوعية ) تتجاوز النظر في الشكليات لتقف على طبيعة العمل أو التصرف و الفحص في عمقه. حيث يعتمد المعيار الموضوعي في تمييزه للقرار الإداري عن سائر أعمال سلطات الدولة القضائية و التشريعية على النظر في طبيعة العمل ذاته ومدى تعلقه بحقوق وحريات الأفراد دون الاعتداد بصفة العضو أو الهيئة التي صدر عنها القرار، و ذلك لعدم ارتباط طبيعة العمل بالهيئة التي أصدرته أو حتى إجراءات إصداره.

هذا ما اعتمده أندريه دولوبادير، إذ ميز بين التصرف الإداري (acte (administratif، والعمل التشريعي (acte législatif) وبين العمل القضائي (acte juridictionel (بالاعتماد على المعيار المادي (le critère matérielle ).

إذن سنحاول التمييز بين القرارات الإدارية والأعمال التشريعية في ( فرع أول)، فيما سنخصص ( الفرع الثاني ) للتمييز بين القرارات الإدارية و الأعمال القضائية.

الفرع الأول : تمييز  القرارات الإدارية  عن الأعمال التشريعية

          يعتمد المعيار الموضوعي بطبيعة العمل و موضوعه بصرف النظر عن الجهة التي أصدرته أو الإجراءات التي اتبعت في إصداره، فإذا تمثل العمل في قاعدة عامة مجردة فأنشأ مركزا قانونيا عاما اعتبر عملا تشريعيا، أما إذا تجسد في عمل فردي يخص فردا أو أفراد معينين بذواتهم فأنشأ مركزا قانونيا خاصا اعتبر عملا إداريا.

وإذا ميزنا بين العمل الإداري والعمل التشريعي، نجد أندريه دولوبادير يعتبر أن الوظيفة التشريعية تعمل على تشكيل القواعد القانونية تلك القواعد التي تتميز بالعمومية والتجريد والإلزامية. أما الوظيفة الإدارية فهي تعمل على اتخاذ قرارات فردية في شكل أعمال شرطية (Acte condition) أو أعمال شخصية فردية (Acte subjectif). إذن فهو يعتبر أعمال الإدارة وكأنها ماديا تشريعية.

إن دوجي وفريقه يؤمنون بأن القانون يدور باستمرار حول فكرتين رئيسيتين وهما فكرة المراكز القانونية وفكرة الأعمال القانونية:

  1. المراكز القانونية: وهي تلك الوضعية التي يوجد عليها الفرد إزاء القانون، فقد تكون وضعية عامة أو موضوعية، وقد تكون وضعية فردية.

فبالنسبة للوضعية العامة هي أن المركز يكون محتواه واحدا بالنسبة لشريحة معينة من الأفراد، مثال على ذلك الموظف العمومي، فإن حقوقه وواجباته لا تختلف من موظف إلى آخر، وبالتالي جل الموظفين لهم مركز عام واحد.

أما بالنسبة للوضعية الشخصية الفردية فهي تلك الوضعية القانونية التي تختلف من فرد إلى آخر وبالتالي تختلف فيها الحقوق والواجبات.

  1. الأعمال القانونية: إن المراكز القانونية كما هو معلوم ليست ثابثة وصالحة لكل زمان ومكان، بل إنها تتغير حسب حاجات المجتمع، وهذا التغيير قد يأتي بإرادة المشرع أو بإرادة شاغل المركز القانوني. كما أن لكل فرد توفرت فيه الشروط المقررة في شغل مركز قانوني أن يشغله، لذلك فإن تغيير المراكز القانونية أو إنشائها أو شغلها يتم بناء على أعمال قانونية، هذه الأعمال قسمتها مدرسة “دوجي” (المدرسة الواقعية) إلى ثلاثة:
  1. أعمال مشرعة: وهي تلك الأعمال القانونية التي تنشئ أو تعدل أو تلغي مركزا قانونيا، فهي كل عمل تنظيمي عام.
  2. أعمال فردية: وهي تلك الأعمال القانونية التي تختلف من شخص إلى آخر باختلاف مراكزهم القانونية.
  3. أعمال شرطية: وهي مكملة للأعمال المشرعة، لأن هذه الأخيرة تنشئ أو تعدل مركز قانوني، والأعمال الشرطية تمنحها للأفراد، إذن فالمراكز القانونية تظل شاغرة حتى تحدد الأعمال الشرطية من يشغلها.

إذن ومن خلال ما ذكرناه في السابق، فقد تأكد لنا ما قاله دولوبادير، الذي اعتبر الوظيفة الإدارية هي حسب المعيار المادي تشريعية لكونها تتخذ قرارات فردية في شكل أعمال شرطية أو أعمال فردية تمارسها بقرارات إدارية.

وبالرجوع إلى القرارات التي يصدرها البرلمان في حق موظفي إدارة مجلس النواب والمستشارين فإنها تعتبر قرارات إدارية ويجوز للمعني بالأمر أن يتقدم إلى المحكمة الإدارية للطعن فيها بالإلغاء بسبب التجاوز في استعمال السلطة، وذلك حسب المادة الثامنة من القانون المحدث للمحاكم الإدارية، وعلى هذا الأساس فإن تعيين موظفي مجلسي البرلمان وترقيتهم وتأديبهم هو بطبيعته عمل إداري مغاير للأعمال البرلمانية، وأن رئيس مجلس النواب أو المستشارين عندما يتخذ مثل هذه القرارات، إنما يتخذها بصفته سلطة إدارية.

وبما أننا في صدد تحديد معايير تمييز القرارات الإدارية عن الأعمال التشريعية، فإنه لا بأس به أن نعود إلى التعريف الذي أعطاه “دوجي” للقانون بكونه “قاعدة عامة وموضوعية” هذا التعريف المادي الذي يعتبر أن البرلمان ليس هو المشرع الوحيد للقوانين وإنما القانون هو كذلك كلما توفرت فيه العمومية والموضوعية أي لا يربطه بهيئة أو جهاز بعينه. وإذا عدنا إلى الدساتير المغربية وخصوصا دستور 1996 ودستور 2011 نجد أنه لا يعتمد بتاتا المعيار الموضوعي وإنما المعيار الشكلي، حيث نص الفصل 45 من دستور 1996على ما يلي:”يصدر القانون عن البرلمان بالتصويت”، إذن المشرع هنا ينيط مهمة إصدار القوانين بهيئة البرلمان فقط. أما الفصل 70 من دستور 2011 فإنه لم يغير شيئا بل نص هو الآخر على أنه “يمارس البرلمان السلطة التشريعية” وحتى إن سمح للحكومة التشريع في بعض الأحيان فإن ما شرعته لا يأخذ الصبغة القانونية إلا بعد مصادقة ممثل الأمة عليه.

هذا بالنسبة للقانون، أما بالنسبة للقرار الإداري فإنه وكما ذكرنا آنفا، أن المدرسة الشكلية تحدد القرار الإداري من خلال الهيئة التي يصدر عنها، أما المدرسة الواقعية فتحدد القرار الإداري بناء على موضوعه. وإذا عدنا إلى دستور 2011 ومن خلال المادة 118 منه، يتضح لنا أن المشرع الدستوري تبنى المعيار المادي في تمييز القرار الإداري. حيث ينص الفصل على ما يلي في الفقرة الثانية منه: ” كل قرار اتخذ في المجال الإداري، سواء كان تنظيميا أو فرديا، يمكن الطعن فيه أمام الهيئة القضائية الإدارية المختصة “.

نستنتج إذن من هذا المقتضى الدستوري أن القرار الإداري يمكن أن يصدر عن غير السلطات الإدارية،، لأن المشرع وضع شرطا واحدا في القرار حسب هذا الفصل لكي يكون قابلا للطعن أمام المحاكم الإدارية وهو أن يرتبط القرار بالمجال الإداري وكيفما كان شكله تنظيميا أو فرديا.

نستنتج إذن أن المعيار الموضوعي وكما عبر عنه “René Chapus”  أنه المعيار الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه في التمييز بين القرارات الإدارية لكونه يرتبط بطبيعة القرار وموضوعه.

الفرع الثاني: تمييز القرارات الإدارية عن الأعمال القضائية:

كما ذكرنا في السابق أنه لتحديد مجالات اختصاص الأنظمة القانونية للعمل الإداري والعمل القضائي، فإنه لا يكفي الأخذ بوجهة نظر المدرسة الشكلية لأن الأجهزة القضائية  تقوم في بعض الأحيان بوظائف إدارية تخرج عن نظام العمل القضائي. لذلك يجب أن ننظر في مضمون الأعمال لكي نعرف ما إذا كانت إدارية أو قضائية.

إن صعوبة التمييز بين القرار الإداري والعمل القضائي، جعلت المعايير الموضوعية تتعدد وتختلف، فهناك من اعتمد السلطة التقديرية كعنصر للتمييز، وهناك من اعتمد عنصر موضوع العمل، وهناك من اعتمد عنصر التلقائية. لذلك سنقف عند مضمون كل عنصر على حدى:

السلطة التقديرية: من الفقهاء من يعتبر أن السلطة التقديرية يمكن الأخذ بها كمعيار لتمييز القرار الإداري عن العمل التشريعي، حيث أن القرارات الإدارية تصدر من سلطة لها اختصاص تقديري أي أنها تصدر قرارات إدارية كلما تطلبت المصلحة العامة ذلك، لكن القضاء لا يصدر أحكاما بناء على تقديره بل له نصوص قانونية يجب أن يعتمدها ولا يخرج عن نطاقها، وبالتالي فإن اختصاصه مقيد.

موضوع العمل: العمل القضائي موضوعه فض نزاع ناشئ بين طرفين، وبالتالي فالقضاء يتدخل عندما تكون هناك خصومة، لكن حتى الإدارة في بعض الأحيان تقوم بفض منازعة بواسطة قرار إداري.

التلقائية: يعني أن الإدارة يمكنها أن تصدر قرارا إداريا دون طلب من أحد، أما القضاء لا يمكنه أن يصدر حكما ما دام ليس هناك شكوى أو طلب من أحد الأطراف.

عنصر الغرض من العمل: إن الإدارة حين إصدارها لقرارات إدارية، فإنها تستهدف تحقيق المصلحة العامة، أما وظيفة السلطة القضائية فترمي إلى توقيع جزاءات على مخالفي النظام القانوني للدولة.

عنصر الأثر القانوني:  القرار الإداري عند إصداره يحدث تغييرا في المركز القانوني لوضعية ما، إما عن طريق الإنشاء أو التعديل أو الإلغاء. أما العمل القضائي فلا يتضمن نهائيا المساس بالنظام القانوني ولا يستهدف بحكمه إنشاء وإلغاء أو تعديل في المركز القانوني.

إذن، ورغم المؤاخذات التي تكتنف اعتماد المعيار الموضوعي فإنه يبقى الأقرب إلى الصواب، وهذا أيضا ما أكده yvesGaudmet عندما قال بأنه في الحقيقة تمييز القرار الإداري عن الأعمال القضائية سيكون ناجعا وشاملا إذا اعتمدنا على المعيار الموضوعي في التمييز بينهما.

المطلب الثاني: تمييز القرار الإداري عن أعمال الأشخاص الخاصة و باقي أعمال الإدارة الأخرى.

إن عمل الإدارة لا يقتصر على إصدار القرارات الإدارية بصفة إنفرادية، بل هناك أعمال أخرى للإدارة تتميز عن القرار الإداري من حيث الهدف و من حيث الرقابة على هذه الأعمال ( الفرع الأول )، كما أن القرار الإداري لا يتوقف صدوره عن وجود سلطة إدارية أي شخص من أشخاص القانون العام، بل هناك بعض الأشخاص الخاصة يمكنها إصدار قرارات إدارية بشكل إنفرادي وترتب نفس الآثار القانونية التي يرتبها أي قرار صادر عن سلطة إدارية ( الفرع الثاني ).

الفرع الأول: القرار الإداري و أعمال الإدارة الأخرى

بحكم وظيفتها المعقدة و تعدد أدوارها وباعتبارها المسؤول الأول عن تحقيق النظام العام و الحفاظ عليه، فإن للإدارةأن تصدر أعمالا لا تخضع لرقابة القضاء وتعرف هذه الأعمال بأعمال السيادة (الفقرة الأولى)، بالإضافة إلى الأعمال المادية والتي لا تهدف من ورائها الإدارة إحداث أثر قانوني لدى الغير (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: القرار الإداري وأعمال السيادة

يقصد بأعمال السيادة طائفة من أعمال السلطة التنفيذية لا تخضع لرقابة القضاء، فلا يختص القضاء العادي أو الإداري بنظر المنازعات المتعلقة بها ولا تكون محلا للإلغاء أو التعويض، أو وقف تنفيذ أو فحص المشروعية.

ويستند التمييز بين القرار الإداري و أعمال السيادة إلى وجود أعمال هي أعمال إدارية لا محالة بحكم صدورها عن السلطة التنفيذية، ولكنها تختلف عن الأعمال الإدارية، العادية، بإعتبار أنها صادرة عن ذات السلطة ولكن في إطار مشاركتها في الوظيفة التشريعية أو في إطار علاقتها مع الدول الأجنبية أو مع المنظمات الدولية.

ولقد إختلف الفقهاء في تمييزهم للقرار الإداري عن العمل السيادي:

أــ فقد ذهب الفقيه ديكرو DUCROQ، إلى أن عمل السلطة التنفيذية يعد من أعمال السيادة إذا إتخذته هذه السلطة تنفيذا لنص دستوري. أما الأعمال التي تقوم بها السلطة التنفيذية إستنادا إلى القوانين العادية واللوائح فإنها تعتبر من قبيل الأعمال الإدارية العادية.

ب ــ أما الفقيه لافريير و TEISSIER و الفقيه هوريو فقد ذهبو إلى تحديد أعمال السيادة عن طريق التمييز بين الأعمال التي تقوم بها السلطة التنفيذية بإعتبارها أداة للحكم، وتلك التي تصدر عنها بإعتبارها أداة للإدارة،ومعنى ذلك أن السلطة التنفيذية لها وظيفتان أحدهما حكومية و الثانية إدارية، والأعمال التي تتخدها بناءا على وظيفتها الحكومية هي التي تعتبر بطبيعتها من أعمال السيادة دون غيرها.

ولقد تعرض هذين الموقفين لإنتقادات على أساس أن الأخذ بنوع القاعدة القانونية كمعيار للتفرقة بين أعمال السيادة و الأعمال الإدارية، بأنه معيار تحكمي لايستند على أساس مقبول، كما أنه يجعل من الدستور أداة في يد السلطة التنفيذية للتهرب من رقابة القضاء.أما الموقف الثاني فقد أنتقد على أساس أنه أيضا معيار تحكمي و غير واضح. و نرى أن هذين الموقفين لم ينجحا في تقديم معيار يمكن على أساسه وضع تمييز بين العمل الإداري و العمل السيادي، وأن الرأي القائل بأن التفرق بين العملين هي تفرقة سياسية و ليست قانونية (الفقيه فالين) وهو أقرب إلى الصواب، فكل ماهو سياسي فهو سيادي، أي كل القرارات التي تتخذها السلطة التنفيذية لممارسة سيادتها الوطنية تكون بمناى عن أية رقابة قضائية.وهذا ماذهب إليه مجلس الدولة الفرنسي حينما إعتبر أن العمل يكون سياديا إذا كان الباعث عليه سياسيا، وإذا كان غير ذلك يكون عملا إداريا.

وقد أقر القضاء الإداري المغربي بأعمال السيادة وبالتالي أخرجها من نطاق ولايته، حيث إعتبرت الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى القرار الصادر عن وزير الشغل و الشؤون الإجتماعية لوضع حد لخلاف بين الفدرالية الوطنية لنقابة النقل عبر الطرقات والفدرالية الوطنية لعمال النقل، بأنه قرار يدخل في نطاق أعمال السيادة و الحكومة و لايمكن الطعن فيه عن طريق دعوى الإلغاء.

أما في مصر فإن المشرع من خلال المادة 11 من قانون مجلس الدولة رقم 47 لسنة 1972 نص على أنه ” لا تختص محاكم مجلس الدولة بالنظر في الطلبات المتعلقة بأعمال السيادة ” كما أن المادة 17 من القانون رقم 46 لسنة 1972 ــ بشأن السلطة القضائية ــ تقرر أنه ” ليس للمحاكم أن تنظر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في أعمال السيادة ” ولم يعطي المشرع المصري تمييزا بين العمل الإداري و العمل السيادي، وترك هذه المهمة للقضاء.

الفقرة الثانية: القرار الإداري و الأعمال المادية

الأعمال المادية هي مجموع الأعمال التي تقوم بها السلطة الإدارية بصدد القيام بوظيفتها الإدارية دون أن تقصد إحداث أثر قانوني عليها، مثل هدم منزل آيل للسقوط، والأعمال الفنية التي يقوم بها موظفو الدولة مثل البناء وغيره أو جر سيارة متوقفة في الطريق العام و تنفيذ القرارات المختلفة. وبهذا فإن العمل المادي يعد مجرد واقعة مادية غير مؤثرة في المراكز القانونية التي تتصل بها، فإذا كان وجود الأثر القانوني هو معيار القرارات الإدارية، فإن غياب هذا الأثر يصبح بمثابة معيار الأعمال المادية. و الأعمال المادية إما أن تكون أفعالا إرادية أرادتها الإدارة وتدخلت لتحقيقها، مثل الإجراءات التنفيذية التي لا تسمو لمرتبة القرار الإداري كهدم منزل آيل للسقوط تنفيذا لقرار الإدارة بالهدم، وقد تكون أفعالا غير إرادية تقع عن طريق الخطأ و الإهمال مثل حوادث السير التي يسببها أحد موظفي الإدارة.

وقد ذهب إفتاء الجمعية العمومية لقسمي الفتوى و التشريع بمجلس الدولة المصري في تمييزها بين القرارات الإدارية وأعمال الإدارة المنفذة للقوانين إلى أنه إذا كان المركز القانوني الذاتي ينشأ من القاعدة القانونية مباشرة دون سلطة للجهة الإدارية المختصة في المنح أو المنع على أي وجه فإن عمل الإدارة يقتصر على تطبيق هذه القاعدة على الأحوال الواقعية المعروضة عليها، حيث لا يعتبر هذا العمل قرارا إداريا وإنما في حكم العمل الإداري البحت أي العمل المادي الذي لا ينجم عنه نشوء أو تعديل في المراكز القانونية الفردي.

وهذا ما ذهبت إليه المحكمة العليا في سعيها إلى التفرقة  بين القرار الإداري و العمل المادي وذلك بوضع معيار للتفرقة بين دعاوى الإلغاء ودعاوى التسوية بالنظر لمصدر إكتساب الحق المتنازع عليه، فإذا إكتسب صاحب الشأن حقه من قرار أصدرته الإدارة بسلطتها التقديرية كنا بصدد قرار إداري يتم إختصامه بواسطة دعوى الإلغاء، وعلى العكس من ذلك، فإذا استمد الفرد حقه من القانون مباشرة، بحيث إقتصر دور الإدارة على إصدار قرار تنفيذي لهذا القانون، ودون أدنى سلطة تقديرية لها في هذا الشأن، فإن عملها لا يعدو أن يكون عملا ماديا لا ينسحب عليه وصف القرار الإداري.

إنإعتماد المحكمة العليا للسلطة التقديرية للإدارة كمعيار للتمييز بين القرار الإداري و العمل المادي ليس معيارا دقيقا، فالإدارة قد تصدر قرارات إدارية دون أدنى سلطة تقديرية من جانبها، وذلك أن المشرع في بعض الحالات يلزم الإدارة بإتخاد قرار إداري معين عند توفر الشروط القانونية لإصداره، فإجتياز مباراة للتوظيف بأحد أسلاك الوظيفة العمومية بنجاح يحتم على الإدارة إصدار قرار إداري لتوظيف الشخص المعني، فأين السلطة التقديرية للإدارة هنا.

ونشير في الأخير إلى أن هناك بعض الإجراءات التحضيرية التي تسبق صدور القرار كالإقتراح و الإنذار التي لا تحمل الطابع التنفيذي لانها ليست لها أي نتائج على الطاعن، أما المنشورات أو الدوريات الداخلية التي تصدرها الإدارة لتسيير مصالحها، فلا تعتبر قرارات إدارية قابلة للطعن بالإلغاء طالما أنها مجرد توجيهات تذكر فقط بالقواعد التنظيمية أو التشريعية، وليس لها أي تأثير قانوني على وضعية الطاعن.وقد أكد المجلس الأعلى بأنه لايكون قابلا للطعن عن طريق دعوى الإلغاء بسبب الشطط في إستعمال السلطة مجرد عمل تحضيري لا يؤثر في الوضع القانوني للطالب الذي يحتفظ بحقه في إقامة دعوى الإبطال عند صدور قرار نهائي.

أما إذا تجاوز هذا الإجراء حدود العمل التحضيري و أثر في المراكز القانونية للأفراد فإنه يصبح قرارا إداريا قابلا للطعن بالإلغاء، حيث إعتبرت المحكمة الإدارية بالرباط أن الرسالة الموجهة من طرف السلطة الإدارية إلى الموظف تخبره بأنه سيحال على التقاعد من تاريخ معين تعتبر قرارا إداريا قبلا للطعن.

الفرع الثاني: القرار الإداري و قرارات الهيئات الخاصة

المبدأ العام، أن القرار الإداري لا يمكن أن يصدر إلا عن سلطة إدارية، أي عن شخص من أشخاص القانون العام مستخدما سلطته العامة التي خوله إياها القانون كإمتياز من إمتيازات القانون العام والتي لامثيل لها في مجال علاقات أشخاص القانون الخاص. إلا أنه وإستثناءا يمكن لبعض الهيئات الخاصة إصدار قرارات إدارية في إطار تسييرها لمرفق عام.

وبرزت الهيئات المكلفة بتسيير مرفق عام في فرنسا مع قانون 16 غشت 1940، والذي على أساسه أنشئت العديد من الهيئات المكلفة بإدارة مرفق عام. ومنحها القانون المذكور امتيازات السلطة العامة، وأناط بها سلطة إتخاذ القرارات التنظيمية والفردية التي تفرض على كل الأعضاء المنتمين إجباريا للمهنة.

وقد بين renéchapus أن قرارات الأشخاص الخاصة ” تعتبر قرارات إدارية عندما تستفيد هذه الهيئات الخاصة من امتيازات السلطة العامة وعندما تتخذ قرارات في المصلحة العامة، وبشكل دقيق تحقق حاجيات المرافق العمومية”

إذن فعلى غرار الأشخاص العامة يمكن لبعض الأشخاص الخاصة إصدار قرارات إدارية، وذلك عندما تتوفر هذه الأشخاص على امتيازات السلطة العامة وتهدف إلى تسيير مرفق عام بهدف تحقيق المصلحة العام، وأبرز هذه الأشخاص هي الهيئات المهنية.التي تعرف بأنها تنظيمات تجمع إلزاميا أعضاء بعض المهن الحرة والتي ــ بفضل السلطة التي يمنحها إياها القانون ــ تتدخل في تنظيم ومراقبة الولوج إلى المهنة وممارستها، وهي تحصل من المشرع على سلطات  استثنائية من القانون الخاص ــ سلطة تنظيمية، والتأديب…. ــ في مجال المهنة.

      إذن فبموجب هذه السلطات التي تتمتع بها الهيئات المهنية، وبحكم تسييرها لمرفق عام فإن قراراتها تعتبر قرارات إدارية قابلة للطعن أمام الجهة المختصة، وهذا ما ذهب إليه مجموعة من الفقهاء فقد إعتبر الفقيه Vedet أن ” قرارات الهيئات المهنية الخاصة بتسجيل الأعضاء وكذا المتعلقة بتنظيم الهيئة، قرارات إدارية قابلة للطعن بسبب الشطط في إستعمال السلطة”. أما الفقيه M. Rousset فإعتبر أن”الهيئات المهنية تخضع للقانون العام من خلال امتيازات السلطة العامة، التي تتمتع بها في تسجيل الإنخراط والتأديب و التنظيم”.

وقد ساير مجلس الدولة الفرنسي هذا الإتجاه حيث أنه لم يهتم بشكل كبير بطبيعة الهيئات المهنية، إلا أنه اعتبر أن القرارات المتخذة لتنفيذ مرفق عام تشكل قرارات إدارية كلما وضعت موضع التطبيق امتيازات السلطة العامة. ومن هذا فإنه يتضح أن مجلس الدولة الفرنسي بدأ يتخلى عن المعيار العضوي  كمعيار حصري لتمييز القرارات الإدارية عن قرارات الأشخاص الخاصة، ولم تعد استحالة صدور قرار إداري عن جهة غير إدارية قائمة، بعد أن إعترف الإجتهاد القضائي الفرنسي بالطبيعة الإدارية للتصرفات الصادرة عن الهيئات الخاصة. وبدأ التحول من المعيار العضوي إلى المعيار المادي.

إلا أن ما لفت إنتباهنا هو ماجاء به الفقيه A. WALINE حيث إعتبر أن “الإجبار على الإنضمام إلى الهيئة هو الشرط الكافي لاعتبارها من أشخاص القانون العام، بالإضافة إلى كون هذه الهيئات تطبق عليها قواعد المسؤولية الإدارية “. أي أن كل شخص خاص أسندت إليه مهمة تسيير مرفق عام، ويتمتع بإمتيازات السلطة العامة بحكم تسييره لهذا المرفق، فإنه يصبح شخصا من أشخاص القانون العام.

وهذا ما ذهبت إليه محكمة القضاء الإداري المصري في حكم لها صادر في 29 يناير سنة 1957 والذي تقول فيه ” أن نقابة المهن ــ على ما إستقر عليه قضاء هذه المحكمة ــ من أشخاص القانون العام، ذلك أنها تجمع بين مقومات هذه الأشخاص فإنشاءها يتم بقانون أو أداة تشريعية أدنى من ذلك وأغراضها وأهدافها ذات نفع عام ولها على أعضائها سلطة تأديبية، ولهؤلاء الأعضاء دون غيرهم حق احتكار مهنتهم فلا يجوز لغيرهم مزاولتها، واشتراك الأعضاء في النقابات أمر حتمي ولها حق تحصيل رسوم الإشتراك في مواعيد دورية منتظمة، هذا فضلا عن أن القانون.. قد أضفى على النقابة شخصية معنوية مستقلة وخولها حقوقا من نوع ما تختص به الهيئات الإدارية مما يدل على أنها جمعت بين مقومات المؤسسات العامة وعناصرها من شخصية مستقلة ومرفق عام تقوم عليه مستعينة في ذلك بسلطات عامة شأنها في ذلك شأن كافة هيئات التمثيل المهني، ومن ثم فهي شخص إداري من أشخاص القانون العام … “

إن كل من الإتجاهين الفقهيين يقران بأن القرارات الصادرة عن الهيئات المهنية قرارات إدارية عندما تتعلق بتسسير مرفق عام، إلا أن ما قال به الفقيه VALINE وأكدته محكمة القضاء المصري بأن الهيئات المهنية هي أشخاصا من أشخاص القانون العام بحكم الأعمال التي تقوم بها و السلطات التي تتمتع بها ليس دقيقا، وذلك لمجموعة من الأسباب: منها أننا بصصد مهنة خاصة، وتتعلق فقط بمن يزاولها، و أن الهيئة يتم إنتخابها من طرف المزاولين لنفس المهنة، وأنها ليست لها أي علاقة بالسلطة التنفيذية ولا تتلقى أي تمويل من طرف الدولة أو مساعدات مالية بل تعتمد فقط على رسوم الإشتراك، وأن تدخل المشرع لا يتجاوز وضع قوانين منظمة لعملها. لهذه الأسباب نرى أن الهيئات المهنية رغم ما تتمتع به من سلطات هي في الأصل تتمتع بها الإدارة فإنها لا ترقى إلى أشخاص عامة.

أما بالنسبة للقاضي الإداري والمشرع المغربيين، فإن القاضي الإداري المغربي، قد أستقر على الأخذ بالمعيار العضوي لتحديد القرارات الإدارية القابلة للطعن بالإلغاء، إذ اقتصر توجهه في المرحلة الأولى، إلى الجهة المصدرة للقرار فقط. فمتى كان شخص معنوي عام مان القرار إداريا، جاز الطعن فيه بالإلغاء.

إلا أنه سرعان ما تراجع عن هذا المعيار بدوره ليأخذ بالمعيار الموضوعي في بعض أحكامه وقراراته حيث قبل الطعن بالإلغاء موجها ضد قرار تأديبي صدر في حق أحد حكام كرة القدم من طرف الجامعة الملكية لكرة القدم والتي تعتبر جمعية خاصة أي من أشخاص القانون الخاص مبررا ذلك بما يلي:” بالرغم من أن الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم هي جمعية خاصة وقع تأسيسها في إطار الظهير الشريف بتاريخ 15 نونبر 1958، وأن القرارات التي تصدرها في المادة التأديبية تكون قابلة للطعن عن طريق دعوى الإلغاء… نظرا لكونها تدخل في إطار ممارسة امتياز من امتيازات السلطة العامة “.

ومن هذا يتضح أن القاضي المغربي إعتمد المعيار المادي في تمييزه بين القرارات الإدارية والقرارات الصادرة عن الهيئات الخاصة، دون إعتبار هذه الأشخاص الخاصة التي تتمتع بإمتيازات السلطة العامة في حدود تسييرالمرفق، أشخاصا عامة كما ذهب إلى ذلك القضاء الإداري المصري. أما المشرع المغربي فقد ضل لزمن طويل يربط صدور القرار الإداري بصدوره عن سلطة إدارية في تطبيق واضح للمعيار العضوي و الذي تجسد في المادة 353 من قانون المسطرة المدنية، والمادتين 8 و 9 من القانون 41.90 المحدث بموجبه للمحاكم الإدارية.

إلا أن الأمر قد تغير من خلال الدستور الجديد الذي جاء في فصله 118 ” كل قرار اتخذ في المجال الإداري سواء كان تنظيميا أو فرديا، يمكن الطعن فيه أمام الهيئة الإدارية المختصة “. إن من شأن هذا الفصل أن يخضع مجموعة  من القرارات ذات الطبيعة الإدارية التي كانت تتخذ سواء من طرف مختلف السلطات في الدولة أو من طرف الهيئات الخاصة المكلفة بتسيير مرفق عام للطعن أمام القضاء الإداري، طبقا للمعيار المادي كما رأينا. وهذا ما سيؤدي إلى توسيع نطاق رقابة القاضي الإداري و بطبيعة الحال توفير ضمانات أكثر للأفراد و الجماعات من أي تعسف قد يطالهم من أي جهة أصدرت في حقهم قرارا إنفراديا أثر في مراكزهم القانونية. وقد أحسن المشرع الدستوري في أخذه بالمعيار المادي بدل حصره القرار الإداري في المعيار العضوي.

خاتمة:

نستنتج من ما تقدم أن لكل معيار مبرراته سواء المعيار المادي أو الشكلي، لكن المعيار الذي يقترب إلى الصواب في نظرنا هو المعيار المادي ومبررنا نحن هو كون الدولة الحديثة أصبحت دولة تدخلية ودولة مقاولة، تستهدف الربح في بعض نشاطاتها، كما أنها أصبحت تتعاقد مع أشخاص خاصة تفوض لها تسيير المرافق العمومية، وبالتالي استفادت هذه الأخيرة من امتيازات السلطة العامة. لذلك فاعتماد المعيار الشكلي يجعلنا لا نساير التطور الذي وصلت إليه الدولة، بمعنى أنه سيجعلنا دائما نعكس طبيعة الهيئة على قراراتها رغم أن طبيعة الهيئة أو الجهاز تختلف باختلاف المصلحة.

      وفي النظام المغربي نجد دستور 2011 وبشكل صريح يعترف بالمعيار المادي عندما نص في الفصل 118 منه ” كل قرار اتخذ في المجال الإداري، سواء كان تنظيميا أو فرديا، يمكن الطعن فيه أمام الهيئة القضائية الإدارية المختصة” نستنتج إذن من هذا الفصل “انهيار المعيار العضوي في تحديد القرار الإداري بعد دستور “.2011
      وبالتالي استخلاص أن العبرة في تحديد القرار الإداري تكون للمجال الذي اتخذ فيه، وليس للجهة التي أصدرته.

      وهكذا فإنه لم يعد من المتصور صدور القرار الإداري فقط عن سلطة إدارية، أي عن شخص من أشخاص القانون العام، وهذا ما سيؤدي إلى توسيع دائرة اختصاص القاضي الإداري، وبالتالي توفير ضمانات أكبر لحقوق و حريات الأفراد لنقترب أكثر من دولة الحق و القانون.

لائحة مراجع الفرنسية:

  • André De Laubadère , Traité de droit administratif LGDJ Tom 1, Edition 11 .
  • A.waline, précis de droit administratif, Edition 1, 1969
  • G.vedel, Droit administratif, Thémis, Edition 9, 1984.
  • M.Rousset, Le service public au Maroc, Edition 2, 2002.
  • René Chapus, Droit administratif général, Montchrestien, Tome1, Edition 5.
  • YVES GAUDEMET, Traité de droit administratif, LGDJ, Tome1, 16éme Edition, 2002.

لائحة مراجع العربية:

  • محمد سليمان الطماوي: “النظرية العامة للمقررات الإدارية”، دراسة مقارنة، الطبعة 5/1984.
  • محمد سليمان الطماوي، محمود عاطف البنا، النظرية العامة للقرارات الإدارية (دراسة مقارنة)، دار الفكر العربي، طبعة 2012.
  • محمد فؤاد عبد الباسط، أعمال السلطة الإدارية (القرار الإداري – العقد الإداري)، دار الفكر العربي.
  • محمد فؤاد مهنا: “القرار الإداري في القانون الإداري المصري والفرنسي”، مجلة الحقوق للبحوث القانونية والاقتصادية تصدرها كلية الحقوق في جامعة الأزهر، مطبعة جامعة الاسكندرية 1957.
  • محمد الأعرج ” المنازعات الإدارية و الدستورية في تطبيقات القضاء المغربي” المجلة المغربية للإدارة المحلية و التنمية.العدد 83.
  • ثروت  بدوي ، مبادئ القانون الإداري ، بدون مطبعة ، 1976.
  • ثورية لعيوني ” القضاء الإداري و رقابته على أعمال الإدارة ” دراسة مقارنة، دار الجسور، الطبعة الأولى 2005.
  • عبد الفتاح بلخال ” القانون الإداري الوسائل القانونية للنشاط الإداري ” الجزء الثاني. الطبعة 2012.
  • حسن صحيب ” القضاء الإداري المغربي ” المجلة المغربية للإدارة المحلية و التنمية.الطبعة 2008.
  • محمد رضا جنيح ” القانون الإداري ” مركز النشر الجامعي 2008.
  • حسين عثمان محمد عثمان ” أصول القانون الإداري “، منشورات الحلبي الحقوقية.
  • عبد العزيز عبد المنعم خليفة ” الأسس العامة للقرارات الإدارية ” الطبعة 2012.
  • محمد ربيع بن سعيد ، أشخاص القانون الخاص وإصدار القرار الإداري، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، المجلة المغربية للدراسات والأبحاث القانونية. Site:www.droitplus.net.
  • بوعزاوي بوجمعة “، مقالة تحت عنوان”انهيار المعيار الموضوعي في تحديد القرار الإداري بعد دستور 2011” المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، العدد106-105ص 15.

الأكثر رواجًا