في دستور2011

د. حفيظ بركة [(*)]

■■ من خلال هذا المقال، نود تسليط الضوء على مكانة المجلس الأعلى للحسابات في الدستور الجديد. المجلس الذي أصبح مؤسسة دستورية منذ دستور 1996. لكن، دستور 2011 جاء بمتغيرات كثيرة تخص هذا المجلس وكذا المجالس الجهوية للحسابات، وجب الوقوف عندها وتحليلها والإحاطة بكل جوانبها■■

فـــي البداية نعرض لمقترحات الأحزاب السياسية والمركزيات النقابية الخاصة بالمجلس الأعلى للحسابات. وقد استقينا هذه المقترحات من المذكرات المرفوعة للجنة الاستشارية لمراجعة الدستور، وسنرى فيما بعد إلى مدى أخذ الدستور الجديد بعين الاعتبار مختلف المقترحات المقدمة (1).

المحور الأول

المجلس الأعلى للحسابات في مذكرات

الأحزاب السياسية والمركزيات النقابية

ولو أن بعض الأحزاب السياسية تحذر المجلس الأعلى للحسابات نظرا للمتابعات التي حركها ضد بعض مناضليها وأحيانا قيادييها… فقد تقدمت هيئات حزبية عديدة إلى جانب منظمات نقابية بمقترحات كثيرة تخص المجلس مباشرة، بعضها جرئ والآخر متداول وأحيانا يهم أمورا شكلية فقط إلى جانب اقتراحات عامة تهم الحكامة الجيدة وتدبير المال العام ومراقبة تدبير المرافق العمومية.

الاقتراحات التي همت المجلس الأعلى للحسابات مباشرة جاءت متنوعة وخصت أساسا تسميته، ضرورة إخبار المواطنين بأعمال المجلس، تعاونه مع البرلمان والحكومة، وجوب إشعار المجلس للنيابة العامة بالاختلالات الملحوظة، تفعيل الدور الرقابي والقضائي للمجلس، “الارتقاء به لمؤسسة دستورية بذاتها”. دسترة التصريح بالممتلكات وطريقة تعيين رئيسيه.

  • حزب العدالة والتنمية

لم يتقدم هذا الحزب بمقترحات خاصة بالمجلس الأعلى للحسابات لكنه تقدم بمقترحات من أجل التأكيد على حرمة المس بالمال العام وخضوع المتصرفين فيه للرقابة والمحاسبة. وفي هذا الصدد اقترح تعزيز التوجيه نحو الشفافية ومكافحة الفساد بإعطاء قوة دستورية للقواعد الناظمة للتصريح بالممتلكات والتي ينبغي أن توسع دائرة المعنيين بها واحترام المعايير الدولية المعتمدة في المجال.

  • حزب التجمع الوطني للأحرار

اقترح هذا الحزب تغيير تسمية المجلس الأعلى للحسابات ومجالسه الجهوية لتصبح المحكمة العليا للحسابات والمحاكم الجهوية للحسابات انسجاما مع مدونة المحاكم المالية مع مراجعة وتدقيق اختصاصاته.

  • حزب الحركة الشعبية

اكتفى هذا الحزب بإشارة غير مباشرة للمجلس الأعلى للحسابات ومجالسة الجهوية. إذ اقترح من أجل تخليق الحياة العامة والحكامة الجيدة مجموعة من المقتضيات والإجراءات نذكر منها دسترة  الهيئات  المهتمة بتخليق الحياة العامة وحماية الحقوق : هيئة محاربة الرشوة، مجلس المنافسة، هيئة الوسيط، المجلس الوطني لحقوق الإنسان إضافة إلى المجلس الأعلى للحسابات والمجالس الجهوية للحسابات، ولو أن منطوق مقترح حزب الحركة الشعبية هذا يحتاج للتوضيح لأن المجلس الأعلى للحسابات مؤسسة دستورية منذ 1996.

  • حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية

اقترح حزب الاتحاد الاشتراكي التنصيص على أن المجلس الأعلى للحسابات بالإضافة إلى مهامه المنصوص عليها في دستور 1996 يعمل على إخبار المواطن عبر نشر تقاريره، كما يقدم الدعم للبرلمان في مجال مراقبة العمل الحكومي، على أن يحدد القانون التنظيمي للمالية المجال التطبيقي لذلك.

  • حزب جبهة القوى الديمقراطية

اكتفى هذا الحزب بالإشارة إلى ضرورة إعطاء البرلمان صلاحيات ووسائل تقييم السياسات العمومية ومنها التنصيص على تعاون المجلس الأعلى للحسابات في هذا المجال.

  • حزب المؤتمر الوطني الاتحادي

تقدمت مذكرة  حزب المؤتمر الوطني الاتحادي بمقترحين بخصوص المجلس الأعلى للحسابات :

  • أولا يرفع المجلس الأعلى للحسابات إلى الملك وإلى الوزير الأول وإلى رئيس مجلس النواب بيانا عن جميع الأعمال التي يقوم بها.
  • ثانيا يشعر المجلس وجوبا وتلقائيا النيابة العامة المختصة بكل اختلال في التدبير المالي الذي قد يسجله أثناء مراقبته للمرافق والمؤسسات والشركات العمومية.
  • حزب اليسار الأخضر المغربي

بخصوص الحكامة الجيدة، اقترحت مذكرة حزب اليسار الأخضر المغربي جعل تقارير المجلس الأعلى للحسابات وكذا المجالس الجهوية للحسابات موجبة لتحريك البحث القضائي تلقائيا، عملا بمبدأ أن المسؤولية تستدعى المحاسبة.

  • حزب الوحدة والديمقراطية

اقترح حزب الوحدة والديمقراطية التنصيص في إطار الدستور الجديد على تدرج لمحاكم المملكة المغربية يأتي بالمحاكم المالية في المرتبة الثالثة. هذا التدرج يأتي كما يلي : المحكمة  الدستورية، المحكمة العليا، المحاكم المالية، المحكمة العسكرية ثم المحاكم العادية.

  • الحزب الوطني الديمقراطي

تقدم هذا الحزب بملاحظات كثيرة من شأنها أن “تساهم في تحصين الدستور الجديد” خصت إحداها المجلس الأعلى للحسابات ودعت إلى تفعيل دوره الرقابي والقضائي باعتباره أعلى مؤسسة تسهر على مراقبة تنفيذ الميزانية العامة ومحاربة الفساد ونهب المال العام.

  • حزب القوات المواطنة

مقترحات عديدة جاء بها حزب القوات المواطنة في مذكرته بخصوص المجلس الأعلى للحسابات. وهكذا، اقترح الرقي بهذا المجلس الأعلى للحسابات إلى هيئة دستورية مستقلة بذاتها تضطلع بدورها كاملا في الرقابة العليا على الأموال العمومية. الأمر الذي يستوجب توسيع اختصاصاته، وتقوية بنيانه وتمتيع قضاته بالضمانات اللازمة لممارسة المهام الموكلة إليه، وترسيخ استقلاله المالي والعضوي والوطني، وتحديد علاقاته بالسلطة التشريعية والحكومة والإدارة والرأي العام على أساس دستوري، بما من شأنه أن يرسى مبادئ المراقبة والمساءلة المالية في المجتمع، ويعزز دولة المؤسسات.

  • حزب العهد الديمقراطي

جاء في مذكرة حزب العهد الديمقراطي أنه على المجلس الأعلى للحسابات أن ينشر عن طريق وسائل الإعلام الوطنية نتائج أشغاله وتحقيقاته فور إنجازه لتقريره السنوي، وذلك في أجل لا يتعدى ثلاثة أشهر على تاريخ رفعه إلى الملك. كما جاء في مذكرة حزب العهد الديمقراطي أنه يجب دعم هيئات الحكامة الجيدة ومن بينها المجلس الأعلى للحسابات.

  • الفيدرالية الديمقراطية للشغل

في مذكرتها حول المراجعة الشاملة للدستور، طالبت الفيدرالية الديمقراطية للشغل التنصيص على مبدأ إلزامية التصريح بالممتلكات كما تقدمت باقتراحات متفرقة من أجل تعزيز الحكامة الجيدة وتقييم للسياسات العمومية.

  • الكونفدرالية الديمقراطية للشغل

بداية طالبت الكونفدرالية الديمقراطية للشغل التنصيص على حرمان المفسدين المتورطين في نهب وتبذير المال العام والاغتناء غير المشروع والتهرب الضريبي والارتشاء والزبونية والاحتكار وكذا التزوير في الانتخابات من كافة حقوقهم السياسية. وطالبت كذلك بدسترة التصريح بالممتلكات. كما تقدمت مذكرة الكونفدرالية بمقترحات عديدة تهم المجلس الأعلى للحسابات مباشرة، جاءت كالآتي :

  • التنصيص على أن المجلس الأعلى للحسابات يعرض وجوبا وتلقائيا على النيابة العامة المختصة الاختلالات الحاصلة في التدبير.
  • العمل على إخبار المواطنين عبر نشره تقاريره.
  • يرفع المجلس الأعلى للحسابات بيانا عن جميع الأعمال التي يقوم بها إلى المالك وإلى رئيس مجلس البرلمان.
  • تعيين رئيس المجلس الأعلى للحسابات من طرف الملك باقتراح من المجلس الأعلى للقضاء.

المحور الثاني

استقلالية المجلس الأعلى للحسابات

على خلاف دستور 1996، ضمن دستور 2011(2) في فصله 147 صراحة استقلالية المجلس الأعلى للحسابات. وهو بهذا يكون قد سار على نفس النهج الذي خطه عندما نص في الفصل 107 صراحة كذلك على استقلالية السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية وعلى كون الملك هو الضامن لاستقلالية الجهاز القضائي. لكن، هذه الاستقلالية ستطرح عدة تساؤلات عند العمل على تنزيلها. إذ أن استقلالية المجلس تبقى مرهونة بقيمة الموارد البشرية والمادية الموضوعة رهن إشارته، وطريقة تعيين الرئيس ومدة انتدابه وكفاءة قضاة المجلس وقيمة التدقيقات التي يقومون بها وخصوصا رد فعل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية وكذا ردود فعل الرأي إزاء قراراته وتقاريره.

ترتبط استقلالية المجلس الأعلى للحسابات كذلك بمدى تحفيز موارده البشرية وحمايتها قانونيا وفعليا من كل المعوقات التي يمكن أن تعترضها في عملها. وتشمل هذه المعوقات كذلك الضغوط الداخلية المباشرة وغير المباشرة التي يمكن أن يتعرض لها القاضي أثناء تأديته لواجبه.

لكن، يلاحظ الفرق الشاسع بين ما جاء به الدستور الجديد في بابه السابع من أجل التنصيص على استقلالية القضاء وبين ما جاء به في الباب العاشر من أجل التنصيص على استقلالية المجلس الأعلى للحسابات. إذ أن المشرع الدستوري، خصص ستة فصول (من الفصل 107 إلى الفصل 112) لتقديم المقتضيات الخاصة باستقلالية القضاء، بينما لم ينص على ذلك إلا في فقرة قصيرة فيما يخص المجلس الأعلى للحسابات، هذا بالإضافة لمحتوى هذه الفصول.

محتوى هذه الفصول يطرح فعلا مشكلا جوهريا : الفصل 107 من دستور 2011 ينص على أن السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية وعلى أن الملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية. بينما الفصل 147 ينص على أن المجلس الأعلى للحسابات هو الهيئة العليا لمراقبة المالية العمومية بالمملكة، ويضمن الدستور استقلاله. القضاء، إذن يضمن استقلاليته الملك بينما استقلالية مجلس الحسابات يضمنها الدستور. لكن، الملك مؤسسة دستورية وفاعل سياسي (في أعلى الهرم) له من الصلاحيات والإمكانيات الكثير للقيام بواجباته الدستورية بينما الدستور مجرد إطار قانوني يحتاج لمن يفعله.

من جهة أخرى، ينظم اختصاصات المجلس الأعلى للحسابات – وهو مجلس رقابي دستوري – قانون عادي ويتعلق الأمر بالقانون رقم 99-62 المتعلق بمدونة المحاكم المالية الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 124-02-1 بتاريخ فاتح ربيع الأول 1423 (13 يونيو 2002). بينما هيئات رقابية دستورية أخرى سيأتي الحديث عنها في المبحث 8 أسفله ينظم اختصاصها قانون تنظيمي على ماذا أسس المشرع الدستوري لهذا التمايز ؟ أليس هذا انتقاصا من استقلالية المجلس ؟ أليست هناك نية مسبقة لوضع اختصاصاته رهينة الحكومة وبالتالي التحكم فيها…؟

المحور الثالث

المجلس الأعلى للحسابات ومهمة

تقديم المساعدة للبرلمان والهيئات

القضائية والحكومة

دستور 1996 اكتفي في فصله 97، بالإشارة إلى أن المجلس الأعلى للحسابات يبدي “مساعدته للبرلمان وللحكومة في الميادين التي تدخل في نطاق اختصاصاته بمقتضى القانون، ويرفع إلى الملك بيانا عن جميع الأعمال التي يقوم بها”(3).

أما دستور 2011 في فصله 148 فقد جاء بتعديلات هامة في هذا الصدد نذكرها كالآتي :

  • بالإضافة لتكريس مساعدة المجلس الأعلى للحسابات للحكومة والبرلمان في مجال اختصاصه، فقد أضاف الدستور الجديد إلى مهام المجلس مساعدة الهيئات القضائية وإن كان لم يبين طبيعة وحدود هذه المساعدة.
  • إضافة مهمة جاء بها دستور 2011 وهي نشر المجلس الأعلى للحسابات جميع أعماله بما فيها التقارير الخاصة والمقررات القضائية. إن هذا الإجراء من شأنه تعزيز الدور الرقابي للمجلس الأعلى للحسابات. إذ أن نشره لأعماله وتقاريره الخاصة والمقررات الفصلية سيجعل الرأي العام يطلع بكثير من التدقيق على واقع تدبير المالية العمومية وحال تسيير المرافق العمومية والجماعات المحلية.
  • من شأن هذا الأمر (نشر أعمال وتقارير المجلس) كذلك تحويل الرأي العام لقوة ضاغطة أكثر، تمكن من تسريع تحسين تدبير الشأن العام ومعاقبة المسؤولين عن الاختلالات الملحوظة وإعطاء العبرة للآخرين. كما من شأن الوثائق المنشورة تشكيل مدرسة مغربية في ميدان مراقبة المال العام والحكامة الجيدة. من شأنها كذلك أن تحث قضاة المجلس الأعلى للحسابات على تحري مزيد من الدقة والحرص على احترام القوانين الجاري بها العمل ومراعاة قواعد العدالة فيما يخص المتابعات التي يقوم بها وقبول الانتقادات المحتمل توجيهها لمنهجيتهم وطرق اشتغالهم وخلاصاتهم.

المحور الرابع

” المهام الجديدة”

للمجلس الأعلى للحسابات

“مهام دستورية جديدة” أناطها الدستور بالمجلس الأعلى للحسابات. إذ تشير الفقرة الرابعة من الفصل 147 إلى أنه “تناط بالمجلس الأعلى للحسابات مهمة مراقبة وتتبع التصريح بالممتلكات وتدقيق حسابات الأحزاب السياسية، وفحص النفقات المتعلقة بالعمليات الانتخابية”.

بداية تجب الإشارة إلى أن هذه المهام جسيمة وتؤكد علوية المجلس الأعلى للحسابات وحساسية مكانته. لكن، هذه المهام ستقحم المجلس في شبه مواجهة مع الأحزاب السياسية وتنظيماتها ومناضليها… ومن شأن هذا الأمر أن يجر عليه بعض المشاكل خصوصا وأن الأحزاب السياسية تمتلك عبر برلمانييها ووزرائها سلطة التشريع والتسيير وتوجيه النفقات العمومية. كما يمكنها التأثير غير المباشر على أعمال المجلس عبر الإدارة والإعلام العمومي والحزبي.

بالنسبة لمهمة مراقبة وتتبع التصريح بالممتلكات، فهي كذلك مهمة جسيمة وحساسة أكثر، من شأن القيام بها على الوجه الأمثل المساهمة الأكيدة في تخليق الحياة العامة ومحاربة الرشوة والفساد الإداري. لكن، بالمقابل ستضع هذه المهام المجلس في المواجهة مع المفسدين واللوبيات التي “تمثلهم” وكذا الجهات الضاغطة والمؤثرة في الإدارة المغربية والجماعات المحلية والمؤسسات العمومية. ولهذه اللوبيات والجهات المقاومة للتغيير أكثر من وسيلة تأثر بها وتوجه مسار المجلس.

ولكن، وجبت الإشارة كذلك على أن الدستور الجديد بإناطته المجلس الأعلى للحسابات بمهام مراقبة وتتبع التصريح بالممتلكات وتدقيق حسابات الأحزاب السياسية وفحص النفقات المتعلقة بالعمليات الانتخابية، لم يأت بجديد حاسم، وإنما دستر مهاما نصت  عليها سابقا نصوص قانونية أخرى، وتخص هذه القوانين الفئات التالية: أعضاء الحكومة وأعضاء دواوينهم، أعضاء المجلس الدستوري، أعضاء مجلس النواب،أعضاء مجلس المستشارين، قضاة المحاكم المالية للقضاة، أعضاء الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، بعض منتخبي المجالس المحلية والغرف المهنية وبعض فئات الموظفين أو الأعوان(4).

المحور الخامس

نشر أعمال المجلس

من الأمور المحمودة كذلك التي جاء بها دستور 2011 في مجال المراقبة المالية (وضمنها فصله 148) هو رفع “المجلس الأعلى للحسابات تقريرا سنويا، يتضمن بيانا عن جميع أعماله ويوجهه أيضاً إلى رئيس الحكومة وإلى رئيس مجلس البرلمان وينشر في الجريدة الرسمية للمملكة. يقدم الرئيس الأول للمجلس عرضا عن أعمال المجلس الأعلى للحسابات أمام البرلمان، ويكون متبوعا بمناقشة”.

فيما يخص رفع تقرير سنوي للملك، فهذه الممارسة كانت موجودة منذ دستور 1996 وإن كان هذا الأخير يستعمل مصطلح “بيان” عوض “تقرير”. الجديد مع دستور 2011 هو توجيه التقرير المذكور إلى رئيس الحكومة ورئيس مجلس البرلمان والتنصيص على نشره في الجريدة الرسمية.

في هذا التوجه الجديد، نقرأ أولا تأكيد رغبة المشرع الدستوري في الرفع من شأن الحكومة والبرلمان والرغبة في توسيع صلاحياتهما من أجل تكريس أسس الملكية البرلمانية. إذ أن الدستور الجديد جعل من بين توجهاته تعزيز اختصاصات الحكومة وجعلها تمارس سلطات تنفيذية واسعة، وكذلك تقوية الدور التشريعي والرقابي للبرلمان وتمكينه من التقييم الأفضل للسياسات العمومية.

في هذا التوجه الجديد نقرأ كذلك تكريس علوية المجلس الأعلى للحسابات والرفع من قيمة تقاريره. إذ أن مناقشة عرض الرئيس الأول للمجلس المقدم أمام البرلمان من شأنه أن ينير البرلمان ومعه الرأي العام عن واقع تدبير المالية العمومية بالمغرب ومراقبتها وواقع تدبير المرافق العمومية والجماعات المحلية من بوابة أخرى خاصة غير بوابة الوثائق الواجب على المجلس نشرها بمقتضى الفقرة 4 من الفصل 148 كما سلف وذكرنا.

والبرلمان إذا ما أراد أن يضطلع بمهامه كاملة في هذا المجال، فإمكانه إن لاحظ اختلالات عامة أو اختلالات تهم هذا القطاع أو ذاك، أو هذا المرفق العمومي أو ذاك، أن يبادر إلى اتخاذ ما يراه مناسبا من خطوات لتقويم الاختلال الملحوظ في إطار ما يضمنه له الدستور والقوانين الجاري بها العمل من صلاحيات. نذكر في هذا الإطار إمكانية تقديم مقترحات قوانين، الأسئلة الكتابية والشفوية الموجهة لأعضاء الحكومة، تشكيل لجن لتقصي الحقائق، التصويت المشروط أو رفض التصويت لمشاريع قوانين الجهاز التنفيذي خاصة مشروع قانون المالية السنوي…

الدستور الجديد ألزم كذلك المجلس الأعلى للحسابات رفع تقريره السنوي إلى رئيس الحكومة وهو كذلك أمر إيجابي اعتبارا لكون الحكومة ورئيسها مسئولين مباشرين عن تدبير الشأن العام كافة. لكن، ما يجب تسجيله في هذا الصدد هو أن المشرع لم يلزم صراحة الحكومة ورئيسها بمناقشة تقرير المجلس واتخاذ الإجراءات المناسبة في حال ما تبين أن هناك اختلالات أو بالعمل على تنفيذ توصيات المجلس.

لا شيء يمنع الحكومة القيام بكل هذا ما دامت هي المسؤولة أولا وأخيرا عن تدبير الشأن العام. لكن، كان بالإمكان إضافة فقرة بهذا الشأن حتى تتحمل الحكومة كافة مسؤوليتها خصوصا مع تعدد مظاهر الفساد الإداري والتدبير السيء لمرافق الدولة والأجهزة (اختلاسات، رشوة، غياب الجودة، تضخم مضطرد للنفقات العمومية، اغتناء فاحش وسريع لبعض الفئات من الموظفين…). حمولة هذه الفقرة ستكون رمزية وفعلية وبالتالي رافعة لتحسين تدبير الإدارات العمومية، المؤسسات العمومي والجماعات المحلية.

مهما يكن، فإن تقديم المجلس الأعلى للحسابات تقريرا أمام الملك والبرلمان ورفعه للحكومة يجب أن لا يكون مجرد إجراء روتيني سنوي. وإنما مناسبة دائمة لتشخيص الاختلالات الموجودة وتسجيل التقدم الحاصل والعامل على القيام بالاقتراحات الناجعة لتدبير أفضل للشأن العام ومراقبة تنفيذها.

أخيراً، كان على المشرع الدستوري أن يقر نفس الشيء بخصوص التقارير التي تهم الجماعات المحلية. هذه التقارير تستحق أن تناقش في دورات المجالس الجماعية من أجل شفافية وفاعلية أكثر في تدبير الشأن المحلي، لم يعد خافيا على أحد حجم مالية الجماعات المحلية ودورها المحوري في التنمية المحلية.

المحور السادس

عن المجالس الجهوية للحسابات

الفصلان 149 و 150 من دستور 2011 واللذان يخصان المجالس الجهوية للحسابات، يستنسخان تقريبا نفس مضامين الفصلين 98 و 99 من دستور 1996. الاستثناء الوحيد المسجل هو الفقرة الثانية من الفصل 149 والتي تعطي صلاحيات عقابية للمجالس الجهوية للحسابات.

دستور 1996 لم يكن ينص على هذه الوظيفة العقابية رغم أنه نص عليها صراحة في الفصل 96 الذي يحدد اختصاصات وصلاحيات المجلس الأعلى للحسابات. دستور 2011 وكأنه “تنبه للأمر” فقد أدرج الفقرة المعنية في الفصل 149.

نص قانوني آخر يبدو وكأنه تنبه “لسهو” دستور 1996، فنص صراحة على الوظيفة العقابية للمجالس  الجهوية للحسابات. يتعلق الأمر بالقانون رقم 99-62 المتعلق بمدونة المحاكم المالية الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 124-02-1 بتاريخ فاتح ربيع الأول 1423 (13 يونيو 2002). يقر هذا القانون كما يتضح من نصه، في فصله 118 (فقرة 4) على أن المجلس الجهوي للحسابات يمارس الاختصاصات التالية في حدود دائرة اختصاصه :

“1- البث في حسابات ……………

…………….

……………

4- ممارسة مهمة قضائية في ميدان التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية بالنسبة لكل مسؤول أو موظف أو مستخدم يعمل في :

  • الجماعات المحلية وهيئاتها.
  • المؤسسات العمومية الخاضعة لوصاية هذه الجماعات والهيئات.
  • كل الشركات أو المقاولات التي تملك فيها الجماعات المحلية أو الهيئات على انفراد أو بصفة مشتركة بشكل مباشر أو غير مباشر أغلبية الأسهم في الرأسمال أو سلطة مرجحة في اتخاذ القرار.
  • يخضع كل من الوالي والعامل لقضاء المجلس الجهوي في الحالات التي يعملان فيها باعتبارهما آمرين بالصرف لجماعة محلية أو هيئة، وفي الحالات الأخرى تطبق عليهما مقتضيات  الفصل الثاني من الباب الثاني من الكتاب الأول من هذا القانون.

5- المساهمة ………… وهيئاتها”.

المحور السابع

الرأسمال البشري للمجلس

المهام المنوطة بالمجلس الأعلى للحسابات من مراقبة المالية العمومية وتدعيم وحماية مبادئ وقيم الحكامة الجيدة والشفافية والمحاسبة وكذا كونه الهيأة العليا لمراقبة المالية العمومية بالمملكة تجعلنا نطرح أكثر من سؤال حول قيمة الرأسمال البشري الذي يتوفر عليه هذا المجلس.

إن هذه المهام جسيمة ودقيقة وتتطلب من القاضي الممارس لها تكوينا جيدا وكذلك – وهذا مهم في نظرنا – تجربة مهنية محترمة في تسيير الشأن العام. مع الأسف، فإن مدونة المحاكم المالية السالفة الذكر وخصوصا الفصل منها، على غرار النصوص الأخرى المنظمة للوظيفة العمومية، لا تشترط تجربة مسبقة لولوج مهنة القاضي.

كذلك نشير لعدم تفعيل الفقرة الثانية من المادة 172 من مدونة المحاكم المالية المتعلقة بخريجي المعهد العالي للإدارة اللذين تم رفض توظيفهم رغم توفر الكثير منهم على تكوين جيد وتجربة ميدانية مهمة وهذا في خرق واضح للقانون(5).

نكاد نجزم على أنه من الصعب على أي كان أن يمارس بصورة جيدة تدقيق ومراقبة الحسابات العمومية إذا لم يكن يعرف عن قرب سير المرافق العمومية. خصوصا وأن مهام مراقبة المال العام يمكن أن تقضي إلى متابعات تنتهي بعقوبات حبسية وحجز للأملاك الشخصية…

المحور الثامن

علوية المجلس الأعلى للحسابات

وهيئات المراقبة الأخرى

شيء جديد جاء به دستور 2011 فيما يخص مراقبة المال إذ جعل من المجلس الأعلى للحسابات الهيأة العليا لمراقبة المالية العمومية بالمملكة. ليس المجلس الأعلى للحسابات الجهة الوحيدة التي تضطلع بمهمة مراقبة المال العام، توجد هيئات أخرى مثل المتفشية العام للمالية، المتفشيات التابعة للوزارات، المتفشيات التابعة لبعض المديريات الكبرى (مثل متفشية المديرية العامة للضرائب، متفشية الخزينة العامة للمملكة، متفشية الإدارة العامة للأمن الوطني…)، المتفشية العامة للإدارة الترابية… لكن، المشرع الدستوري اختار أن يبوئ المجلس هذه المكانة العالية. على أنه يجب التمييز بين الرقابة العليا البعدية المستقلة التي يمارسها المجلس والرقابة الداخلية والغير مستقلة التي تمارسها الهيئات الرقابية المذكورة أعلاه.

وهذا يجعلنا نبدي أكثر من ملاحظة. بداية، إن هذه العلوية تكاد تكون تحصيل حاصل نظرا للطابع القضائي للمجلس وصلاحياته العقابية وطابعه الدستوري منذ دستور 1996. على أن هذه العلوية يجب أن لا يفهم منها عدم فعالية الهيئات الرقابية الأخرى، بل على خلاف ذلك فإن المتفشية العامة للمالية مثلا راكمت تجربة طويلة ويشهد لأطرها بالكفاءة والخبرة في ميدان اختصاصهم. فعلى عكس المجلس الأعلى للحسابات لم يتم تجميد أو تخفيف أنشطتها رغم أنه يعاب عليها سماحها لمفتشيها بالالتحاق بمديريات وزارة الاقتصاد والمالية وإدارات ومؤسسات عمومية أخرى من أجل احتلال مناصب مسؤولية عليا تدر مداخيل وامتيازات مادية ومعنوية أكثر…

مسألة أخرى تحسب للهيئات الرقابية الأخرى وهي وفرة عدد مفتشيها وأطرها بالمقارنة مع المجلس الأعلى للحسابات ومجالسه الجهوية الذي تطلب منه النصوص المنظمة لسير أعماله تغطية كافة التراب الوطني وكذا كل المرافق العمومية والجماعات المحلية. أما الهيئات الرقابية المذكورة فمجال اختصاصها ينحصر في قطاع وزاري معين أو مديرية معينة أو الإدارة الترابية بالنسبة للمتفشية العامة للإدارة الترابية…

ويحسب كذلك لمفتشي هذه الهيئات معرفتهم الدقيقة بميدان عمل المرفق موضوع اشتغالهم وكذا قربهم منها خصوصا مع توفر المتفشيات المعنية على مصالح خارجية (متفشيات جهوية) ومع وجود متفشيات في بعض المديريات الكبيرة كما سبق وأشرنا لذلك.

والمطلوب في هذا الصدد عوض التنافر وعدم الثقة والتنافس خلق روابط وجسور بين مختلف الهيئات الرقابية من جهة والمتفشية العامة للمالية من جهة ثانية والمجلس الأعلى للحسابات من جهة ثالثة، والهدف منها تبادل الخبرات والمعطيات وتقوية الدور الرقابي للدولة على المالية العمومية وكذا ترشيد النفقات الخاصة بهذا الدور.

التساؤل الذي يجب أن يطرح بهذا الصدد على سبيل المثال لا الحصر هو مدى تفعيل المادة 109 من مدونة المحاكم المالية والتي تشير على أن الوزير المعني يبلغ “إلى المجلس أو إلى المجلس الجهوي المختص حسب الحالة، التقارير المنجزة من طرف هيئات التفتيش والمراقبة التي تشير إلى مخالفات تدخل في مجال التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية أو تتضمن ملاحظات حول تسيير الأجهزة لرقابة المحاكم المالية، ويجب أن تكون هذه التقارير مصحوبة بنسخ من الوثائق المثبتة المتعلقة بمواضيع هذه التقارير”.

وانطلاقا من قرب المتفشيات المذكورة من الإدارات التابعة لها ومعرفتها لخصوصياتها وطرق اشتغالها، نقترح تعزيز دورها وتمكينها من كل الوسائل المادية والبشرية اللازمة لإنجاح دورها. أكثر من ذلك نقترح تدارس إمكانية خلق تفتيشية عليا للوظيفة العمومية تعمل تحت إمرة رئيس الحكومة بتركيبة مرنة (تشتغل مثلا بالموارد البشرية والمادية للمتفشيات الوزارية حتى لا تشكل عبئا إضافيا على ميزانية الدولة).

يجدر كذلك خلق تنسيق دائم بين هذه المتفشيات يكون الهدف منه تبادل التجارب وإقرار خطة وطنية لتخليق الإدارة وتدعيم مبادئ الحكامة الجيدة وصرف المال العام على الوجه الصحيح.

من جهة أخرى وإذا كان الدستور الجديد قد ضمن استقلالية المجلس الأعلى للحسابات وجعله الهيأة العليا للرقابة المالية وعزز روابطه بالمؤسسات الدستورية الأخرى، فإنه لم يجعل منه الهيأة الرقابية الدستورية الوحيدة. دستور 2011 بغية ضمان حكامة جيدة وتدبير جيد للمرافق العمومي، دستر وعزز دور هيئات رقابية وهيئات أخرى.

وهكذا، تمت دسترة مجلس المنافسة وهيئة النزاهة ومحاربة الرشوة، مجلس حقوق الإنسان، مؤسسة الوسيط، الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري. كذلك اعترف دستور 2011 بمكانة ودور المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية، وأكد كذلك دور النقابات ورسخ دور ووسائل الإعلام، الدستور الجديد عمل كذلك على تعزيز حرية الصحافة ودستر الحق في الإعلام، كما ضمن استقلال القضاء وعزز من صلاحيات الحكومة ورئيسها وربط تعيينه بنتيجة الانتخابات ووضع الإدارة تحت تصرفه وقوى صلاحيات البرلمان ووسع هامش مراقبته للعمل الحكومي.

كذلك الدستور الجديد أناط بالبرلمان تقييم السياسات العمومية ووسع مجال القانون. وعمل على تخليق الحياة السياسية.

وفي مجال الحكامة الجيدة، أتى دستور 2011 بمقتضيات جديدة وعديدة. فوضع أسس الحكامة الجيدة لتدبير المرافق العمومية وربط تحمل المسؤوليات والوظائف العمومية بالمحاسبة. كما دستر التصريح بالممتلكات بالنسبة للمنتخبين والموظفين والأعوان الذين يتحملون مسؤولية عمومية. كما أقر مبدأ توازن الميزانية العمومية وكرس صلاحيات المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.

أخيرا؛ الدستور الجديد عمل على توسيع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والحريات الأساسية (العلاج والعناية الصحية؛ الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية، والتضامن التعاضدي أو المنظم من لدن الدولة، الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج وذي جودة؛ التنشئة على التشبث بالهوية المغربية، والثوابت  الوطنية الراسخة؛ التكوين المهني والاستفادة من التربية البدنية والفنية؛ السكن اللائق؛ الشغل والدعم من طرف السلطات العمومية في البحث عن منصب شغل، أو في التشغيل الذاتي؛ ولوج الوظائف العمومية حسب الاستحقاق؛ الحصول على الماء والعيش في بيئة سليمة؛ التنمية المستدامة…) ووجه عمل السلطات العمومية في اتجاه تحقيقها. إذ أناط بالدولة والجماعات الترابية والمؤسسات العمومية مسؤولية تعبئة كل الوسائل المتاحة لتسهيل وضمان استفادة المواطنين على قدم المساواة منها. ومن شأن توسيع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والحريات الأساسية هذا أن يجعل من المواطن والرأي العام قوة ضاغطة لتسريع الانتقال إلى عهد جديد من الحكامة الجيدة، لأن ضمان هذه الحقوق والحريات لن يتأتى إلا بمراقبة صارمة للمالية العمومية ومحاربة الفساد الإداري…

المحور التاسع

مكانة المجلس الأعلى للحسابات بين

الدستورين المغربي والفرنسي

من أجل إغناء هذا المقال آثرنا أن نقوم بمقارنة بين مكانة المجلس الأعلى للحسابات في دستور المملكة المغربية ودستور الجمهورية الفرنسية.

ما يثير الانتباه للوهلة الأولى في هذا الصدد هو اقتصار دستور الجمهورية الفرنسية على فصل واحد في موضوع المجلس الأعلى للحسابات ويتعلق الأمر بالفصل 2-47 والذي تقع في فقرتين فقط، تشير الفقرة الأولى(6) إلى أن المجلس الأعلى للحسابات يقدم المساعدة للبرلمان في مراقبة عمل الحكومة. كما يقدم المساعدة للبرلمان والحكومة في مراقبة تنفيذ قوانين المالية وتطبيق قوانين تمويل الضمان الاجتماعي وكذا تقييم السياسات العمومية. وتضيف هذه الفقرة على أن المجلس الأعلى للحسابات، بتقاريره العمومية، يساهم في إخبار المواطنين. وتشير الفقرة الثانية على أن حسابات الإدارات العمومية منتظمة وحقيقية. تعطي صورة واقعية عن نتيجة تدبيرها، عن أصولها، ووضعيتها المالية(7).

من الواضح أن الدستور المغربي أقر تفاصيل أهم لمكانة المجلس الأعلى للحسابات ومجالسه الجهوية وأعلى شأن أكثر… بداية نلاحظ أن الدستور الفرنسي يجعل ضمنيا المجلس الأعلى للحسابات رهن إشارة البرلمان، من أجل مساعدته على مراقبة عمل الحكومة، بينما ضمن الدستور المغربي صراحة استقلالية المجلس الأعلى وأشار كذلك إلى أنه يقدم مساعدة للبرلمان في المجالات المتعلقة بمراقبة المالية العمومية بنفس الشيء بالنسبة للحكومة والهيئات القضائية.

بخصوص نشر المجلس الأعلى للحسابات لتقاريره، فإن الأمر منصوص عليه كذلك في الدستور المغربي دون أن يشير الأخير إلى أن المستهدف من هذا النشر هو المواطن.

الفقرة الثانية من الدستور الفرنسي السالفة الذكر لا ترد بأي شكل في الدستور المغربي، كذلك لا يشير الدستور المغربي بأي شكل لمؤسسة الضمان الاجتماعي. طبعا هذه المؤسسة في نسختها المغربية (الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي) باعتبارها عمومية تدخل في اختصاص المجلس المغربي للحسابات بمقتضى مضمون الفصل 147 من دستور 2011.

وأخيراً يشير الدستور المغربي على عكس الدستور الفرنسي إلى المجالس الجهوية للحسابات وإلى دورها المتمثل في مراقبة حسابات الجهات والجماعات الترابية الأخرى وهيئاتها وكيفية قيامها بتدبير شؤونها.

نود التأكيد على أن الأمور الإيجابية التي جاء بها دستور 2011 فيما يخص المجلس الأعلى للحسابات ستبقى غير ذي قيمة حتى تتأكد للرأي العام فعالية هذا المجلس وقيمته المضافة.

فعالية المجلس الأعلى للحسابات وقيمته المضافة ستتضح بقدر تواصله مع الرأي العام وخصوصا – وهذا هو الأهم في نظرنا – بقيمة الأموال المستردة لفائدة الميزانية العامة للدولة أو ميزانيات الجماعة المحلية وكذا ميزانيات المؤسسات العمومية المعنية بتقاريره. المجلس الأعلى للحسابات يكلف الدولة ميزانية مهمة. فبخصوص سنة 2011 يفيدنا قانون المالية بالمعطيات الآتية بخصوص ميزانية المجلس :

  • الاعتمادات المرصودة للموظفين والأعوان : 70.536.000 درهم.
  • الاعتمادات المرصودة للمعدات والنفقات المختلفة : 38.309.000 درهم.
  • الاعتمادات المرصودة للاستثمار : 88.000.000 درهم.

في مقابل هذه النفقات المهمة لا يتوفر المجلس الأعلى للحسابات على موارد خاصة وهذا أمر يكاد يكون طبيعيا. لكنه يؤكد إلى حد ما عدم  استقلالية المجلس واقعيا على المستوى المالي عن السلطة التنفيذية. في مقابل هذه النفقات المهمة كذلك وغياب موارد خاصة، يجدر بالمجلس الأعلى للحسابات أن يقيم أداءه كما أسلفنا بقدر المال المهدور المسترجع وكذا الأثر الإيجابي على سير المرافق العمومية. التقارير الحالية للمجلس لا تتضمن رغم غنى محتواها تفصيلا بهذا الخصوص.

في نفس الاتجاه، يحق للمواطن كما للباحث أن يتساءل عن مآل كل مهمات التدقيق في حسابات ميزانيات المرافق العمومية التي يقوم بها المجلس، إذ ألفنا بخصوص مهام التدقيق والتفتيش عموما حفظ عدد من الملفات التي لا تفوح منها بالضرورة رائحة طيبة. لقد تحدثنا عن الضغوطات الداخلية التي يمكن أن تعترض عمل قضاة المجلس وهذه نتيجة سلبية لنموذج صارخ منها. لهذا نقترح تمكين البرلمان أو هيئة أخرى من الاطلاع على سير المجلس حتى لا يبقى بمنأى عن كل مراقبة أو نقد.

من جانب آخر، إذا ما عدنا لمقترحات الأحزاب السياسية بخصوص المجلس الأعلى للحسابات التي تقدمت بها إبان التحضير للإصلاح الدستوري، نجد أنها لم تحض كلها بتجاوب اللجنة المكلفة بالإعداد للمراجعة الدستورية. ولعل أبرز هذه المقترحات يهم مآل تقارير المجلس الأعلى للحسابات ومجالسه الجهوية. إذ جاء في اقتراحات عدة أحزاب سياسية وهيئات نقابية ما يفيد بوجوب  التنصيص على أنه يتعين على المجلس الأعلى للحسابات أن يعرض وجوبا وتلقائيا على النيابة العامة الاختلالات التي رصدها في تدبير المرافق العمومية. هم الأحزاب والنقابات كان أن لا تبقى نتائج أعمال المجلس حبيسة الرفوف وبالتالي لا يتحقق الهدف من إنشائه. مع الأسف لم نسجل الأخذ بهذا المقترح وستضل الأمور من الناحية القانونية على الأقل على حالها…

أخيرا، لاحظنا مع كامل الأسف تقصيرا واضحا وكبيرا لإدارة المجلس الأعلى للحسابات في تحيين موقعه على الإنترنت(8). www.courdescomptesma إذ لازال هذا الموقع يستند لدستور 1996 في صفحاته الداخلية(9) (لتوضيح اختصاصاته. نفس الشيء بالنسبة للنبذة التاريخية عنه وعن تطوره إذ لازالت لا تشير إلى محطة دستور 2011 رغم آنيتها وأهميتها).

يحز هذا في نفس أكثر لأن دستور 2011 جاء ليرفع من قيمة المجلس الأعلى للحسابات، إذ بالإضافة لتكريسه مؤسسة دستورية مستقلة، فقد جعله الهيئة العليا لمراقبة المالية بالمملكة وضمن استقلاليته. ذلك ما جاء به الفصل 147 من دستور 2011.

نشير لهذا الأمر، لأن حساسية مهمة المجلس الأعلى للحسابات ومكانته الدستورية تفرض عليه أن يعطي المثال في مجال التدبير العمومي خصوصا مع أهمية رأسماله البشري والإمكانيات المالية المرصودة له. أيضاً فإن قرارات المجلس الأعلى للحسابات يمكن أن تؤدي لعقوبات حبسية ومالية جسيمة ومعنوية. أداء المجلس محسوب عليه إذن وعليه تحمل تبعات ذلك شكلا ومضمونا.

لا يتوفر الموقع المذكور كذلك على النسخة العربية الكاملة من دستوري 1996 و2011 والنسخة العربية من مدونة المحاكم المالية (القانون رقم 62-99 المتعلق بمدونة المحاكم المالية) والنسخة العربية من القانون رقم 61-99 المتعلقة بمسؤولية الآمرين بالصرف والمراقبين والمحاسبين العموميين.

هذا الحال لا يشرف مؤسسة دستورية وقضائية عليها أن تعطي المثال في احترام قوانين المملكة. نص الدستور واضح فيما يخص اللغة الرسمية للبلاد فهي اللغة العربية، أما اللغة الفرنسية فهي لغة عمل وتواصل لكن، لا يشير إليها النص الدستوري بتاتا.

هوامش:

  1. محمد بنيحيى (نصوص جمعا ونسقها). الدستور الجديد للمملكة المغربية 2011. منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة “نصوص ووثائق”، عدد 246، الطبعة الأولى، 2011، الرباط ص 37-388.
  2. دستور المملكة المغربية لسنة 2011 الصادر في شأنه الظهير الشريف رقم 1.11.19 بتاريخ 29 يوليو 2011، الجريدة الرسمية عدد 5964 مكرر (30 يوليو 2011).
  3. دستور المملكة المغربية المراجع لسنة 1996 الصادر في شأن الظهير الشريف رقم 1.96.157 بتاريخ 7 أكتوبر 1996، الجريدة الرسمية عدد 44420، (10 أكتوبر 1996).
  4. يتعلق الأمر بالنصوص القانونية التالية:
    • بالنسبة لأعضاء الحكومة وأعضاء دواوينهم: ظهير شريف رقم 72-08-1 صادر في 20 أكتوبر 2008 بتتميم الظهير رقم 331-74-1 الصادر في 23 إبريل 1975 بشأن حالة أعضاء الحكومة وتأليف دواوينهم.
    • بالنسبة لأعضاء المجلس الدستوري: ظهري شريف رقم 69-08-1 صادر في 20 أكتوبر 2008 بتنفيذ القانون التنظيمي رقم 07-49 المتمم بموجبه القانون التنظيمي رقم 93-29 المتعلق بالمجلس الدستوري.
    • بالنسبة لأعضاء مجلس النواب: ظهير شريف رقم 70-08-1 صادر في 20-10-08 بتنفيذ القانون التنظيمي رقم 07-50 القاضي بتتميم القانون التنظيمي رقم 97-31 المتعلق بمجلس النواب.
    • بالنسبة لأعضاء مجلس المستشارين: ظهير شريف رقم 71-08-1 صادر في 20-10-2008 بتنفيذ القانون التنظيمي رقم 07-51 القاضي بتتميم القانون التنظيمي رقم 97-32 المتعلق بمجلس المستشارين.
    • بالنسبة للقضاة : ظهير شريف رقم 107201- صادر في 30 نوفمبر 2007 بتنفيذ القانون رقم 06 -53 القاضي بنسخ وتتميم الفصل 16 من الظهير الشريف بمثابة قانون رقم 467-74-1 الصادر في 11 نوفمبر 1974 المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة.
    • بالنسبة لقضاة المحاكم المالية : ظهير شريف رقم 199-07-1 صادر في 30-11-2007 رقم 99-62 المتعلق بمدونة المحاكم المالية.
    • بالنسبة لأعضاء الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، ظهير شرف رقم 73-08-1 صادر في 20-10-2008 يقضي بتتميم الظهير الشريف رقم 212-02-1 بتاريخ 31 غشت 2002 بإحداث الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري.
    • بالنسبة لمنتخبي المجالس المحلية والغرف المهنية وبعض الموظفين أو الأعوان العموميين : ظهير شريف رقم 202-07-1 صادر في 20 أكتوبر 08 بتنفيذ القانون رقم 06-54 المتعلق بإحداث التصريح الإجباري لبعض منتخبي المجالس المحلية والغرف المهنية وبعض فئات الموظفين أو الأعوان العموميين بممتلكاتهم.
  5. تنص المادة 172 من دستور 2011 على أنه “يوظف الملحقون القضائيون :

بعد النجاح في مباراة يشارك فيها حملة إحدى الشهادات التي يتم تحديدها بواسطة أمر للرئيس الأول من بين الشهادات التي تسمح ولوج درجات سلم الأجور رقم 11 أو درجة معتبرة في حكمها وذلك طبقا للنصوص التنظيمية الجاري بها العمل. وتؤشر على هذا الأمر السلطة الحكومية بالوظيفة العمومية.

بناء على المؤهلات من بين المترشحين الحاصلين على دبلوم المعهد العالي للإدارة والمختارين حسب الاستحقاق من بين الخريجين المتفوقين في المؤسسة في حدود رقع (1/4) المناصب المالية الشاغرة المتباري بشأنها”.

  1. L’article 47 – 2 de la constitution française stipule « La Cour des Comptes assiste le Parlement dans le contrôle de l’action du gouvernement. Elle assiste le Parlement et le gouvernement dans le contrôle de l’exécution des lois de financement de la sécurité sociale aussi que dans l’évaluation des Politiques Publiques. Par ses rapports publics, elle contribue à l’information des citoyens. Les comptes des administrations publiques sont réguliers et sincères. Ils donnent une image fidèle des résultats de leur gestion, de leur patrimoine et de leur situation financière».
  2. Ibid.
  3. أنظر مثلا الصفحة التالية : صفحة الاستقبال – تقارير ونصوص – النصوص – مدونة المحاكم المالية.
  4. برمته بدأ مباشرة بعد نشر نص دستور بالجريدة الرسمية حررت هاته الخاتمة يوم 19 نوفمبر 2011 على أن تحضير المقال.

[(*)] أستاذ بالمعهد الوطني للبريد والمواصلات – الرباط.  

الأكثر رواجًا