محمد اشنيفخ

طالب باحث

 كلية الحقوق محمد الاول وجدة.

تقديم:

كان مغرب ما قبل سنة 1912 دولة ذات سيادة تحكمه بنية إدارية سياسية تسمى “المخزن”، والتي اعتبرت أداة لتنفيذ أوامر وتعليمات السلطان[1]. وقد طبعت المكانة المركزية للسلطان في التنظيم السياسي والإداري والقضائي وضعية العاملين بالإدارة. وهو ما يوضح، إلى جانب حجم الوظائف المنجزة من قبل الإدارة وخصائصها آنذاك، بساطة إطار العلاقات بين الدولة ومستخدميها، إذ ظلت هذه العلاقات متأثرة بالمبادئ العرفية إضافة إلى الممارسات اليومية، الأمر الذي يبين الطابع الهش الذي ميز وضعية العاملين بالإدارة آنذاك.

سيؤدي خضوع المغرب للحماية الفرنسية لتغيير إن لم يكن عميقا لهذا التصور التقليدي للوظيفة العمومية فعلى الأقل إلى تحول تدريجي للمعطيات المتعلقة به. وقد ساهمت في هذا الأمر عوامل عدة أهمها: تقاسم السلطة بين “المخزن” وإدارة الحماية، إضافة إلى إحداث إدارة جديدة على أساس النموذج الفرنسي، وتوسيع مجال أنشطتها، لاسيما الدعوة من أجل تأسيس النـــواة الأولى لمصــالح عامة جــديدة من جميــــع الأصـناف لفائدة المـــــوظـفين الفرنسيين القـــــادمين مـن الوطـن الأم (La métropole) والجزائر وتونس. وستكون النتيجة الطبيعية لهذا العامل الأخير، انطلاقا من سنة 1913، تبني العديد من النصوص المتعلقة بالعاملين في الإدارة.

يتعلق الأمر هنا بأحد أبرز التجديدات في مجال الوظيفة العمومية، إذ أصبحت العلاقة بين الدولة وموظفيها مبنية على قوانين ونصوص تنظيمية ذات طبيعة عامة وغير شخصانية، والتي ستؤمن لهؤلاء استقرارا وظيفيا يستند على الترسيم، وتنظم لفائدتهم مسارا مهنيا[2].

في سياق مرحلة تميزت بحركية تشريعية وتنظيمية مست مجالات أخرى، لاسيما تلك المتعلقة بالحقوق والحريات الأساسية للمواطنين (إذ تم إصدار نصوص تنظم الحرية النقابية وتكوين النقابات المهنية، وتبني قانون تأسيس الجمعيات والتجمعات العامة والصحافة، وكل هذه الترسانة خرجت إلى حيز الوجود سنتي 1957 و 1958[3])، أقر المغرب أول نص قانوني خاص بالوظيفة العمومية تسري مقتضياته على جل أصناف الموظفين، ليحل محل الترسانة القانونية التي كان معمولا بها من قبل، والتي تميزت بالتشتت والتعدد تبعا لتعدد الأطر التي وجدت آنذاك.

لقد مكن إصدار ظهير 24 فبراير 1958 بمثابة النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية[4] من توحيد مجموع القواعد المنظمة للوظيفة العمومية، واختزال الوضعيات النظامية المتعددة والمتباينة وإعادة تصنيفها، وخلق المناخ المناسب لتأهيل العناصر الوطنية لتحمل المسؤولية، وذلك بتكوينها وإعطائها الضمانات الوظيفية والحريات النقابية[5]. وهكذا فقد اعتبر هذا النص القانوني بمثابة المحور الذي تدور حوله بقية الأنظمة الأساسية، والتي هي حسب الحالات إما مجرد أنظمة تطبيقية، أو أنظمة تتضمن مخالفات للنظام الأساسي العام أو أنظمة مستقلة.

1- النظام الأساسي وتكريس نظام المسار

مكن صدور ظهير 24 فبراير 1958 من إضفاء طابع التجانس على الوظيفة العمومية المغربية من خلال إرساء قاعدة صلبة لعلاقة الدولة بموظفيها تقوم على تصور نظام المسار “système de carrière”، والذي تحدد في إطاره حقوق وواجبات الموظفين، وتضمن الدولة من خلاله إخلاص ونزاهة وكفاءة خدامها.

تعد الوظيفة العمومية المستندة لنظام المسار نتيجة أو منتوج توليفة عناصر متنوعة تشكل ثقافة دولة تدخلية تتأسس على منطقين: السلطة العامة والمرفق العام[6]. لذلك فتصميم الوظيفة العمومية يمكن أن يتم حسب النظام الذي يتناسب بشكل أفضل مع تدبير الدولة. حاليا على المستوى النظري يوجد نظامان: الوظيفة والمسار، لكنه ليس من النادر أن تلجأ الدولة، بغض النظر عن نظامها السياسي، إلى النظامين معا في نفس الوقت.

يقوم نظام المسار على قاعدة التوظيف على سبيل الدوام والاستمرار من أجل التدرج في إطار مسار مهني داخل الإدارة، وتحدد مراحله وشروطه وفقا للقوانين والأنظمة[7]، على اعتبار أن الموظف يوجد في وضعية قانونية ونظامية اتجاه الإدارة[8]. ويترتب عن هذه الوضعية أن الإدارة هي من تحدد بشكل انفرادي حقوق وواجبات الموظف على أساس تحقيق التوازن بين مصلحة هذا الأخير ومصلحة المرفق العام، وأن الوضعية الإدارية للموظف وتطور حياته المهنية قابلة للتغيير متى ما رأت السلطة العامة أن المصلحة العامة تفترض ذلك. فالنظام القانوني للوظيفة العمومية يعتبر متميزا بالمقارنة مع قواعد قانون الشغل.

إن الاستقرار الوظيفي الذي يوفره نظام المسار ممكن بفضل آلية الترسيم، والتي تتيح للموظف تطوير حياته المهنية بالموازاة مع أقدميته، إذ يمكن أن يرقى إلى مستويات أعلى سواء من خلال الترقية في الدرجة أو الترقية في الرتبة. وهذا التعاقب ممكن بفضل هيكلة الوظيفة العمومية المتسمة بوجود هيئات تسلسلية، وبنية مكونة من درجات ورتب تمكن الموظف من توقع الإمكانيات المتاحة له على صعيد الترقي، وكذا مناصب المسؤولية التي يمكن أن يشغلها، إضافة إلى الأجرة المصاحبة لهذه المناصب.

إن هذه الخصوصية التي تستمد مبرراتها من طبيعة العمل لدى الدولة تحيل إلى تطبيق سلسلة من القواعد المختلفة عن تلك المطبقة على الأجراء في القطاع الخاص، ففي الوقت الذي يتم فيه الموظف مهمة ما فإنه ينقل ليشغل وظيفة أخرى بنفس الإدارة دون أن يحتاج في ذلك إلى اجتياز امتحان آخر، ويتكرر هذا السيناريو إلى حين ترك الموظف للوظيفة العمومية، والذي غالبا ما يترافق مع بلوغه سن التقاعد.  

وهذا على عكس ما هو عليه الأمر في نظام الوظيفة « système d’emploi »، حيث إن الإدارة تهدف بالأساس من إجراء التوظيف قيام المرشح بوظيفة محددة دون أن يكون من حقه شغل وظيفة أخرى إلا بموجب عقد جديد يكون مجبرا بمقتضاه على التنافس على قدم المساواة مع مترشحين آخرين لا ينتمون مسبقا للإدارة، ويتوفرون على قدرات متوافقة مع هذه الوظيفة.

يؤسس نظام المسار لرابط دقيق بين الموظف والدولة، بحيث يلتزم الطرف الأول )الموظف( باحترام الواجبات الملقاة على عاتقه، والتي تضمن صدقه وحياده وإخلاصه للدولة، ويتعهد الطرف الثاني )الدولة( بالمقابل بأن يؤمن لهذا الموظف استقرارا بالوظيفة التي عين فيها وتحسينا تدريجيا لوضعيته المادية داخل الإدارة. فهو إذا ما أردنا أن نقول “أمن مقابل إخلاص” (sécurité contre loyauté).

2- الوظيفة العمومية أزمة تصور أم أزمة تطبيق

الأكيد أن الانتقادات الموجهة للإدارة العمومية ليست بالجديدة بل تعود لسنوات مضت، وكدليل على ذلك التقرير الصادر عن البنك الدولي سنة 1995 حول واقع هذه الإدارة، لذلك لا غرابة أن نجد أن مفهومي الجهاز الإداري والإصلاح ظلا مقترنين سواء في الخطاب السياسي أو الحكومي وكذا الأكاديمي لغاية الوقت الحاضر.

إن تعاظم دور الإدارة العمومية باعتبارها أداة لتنفيذ السياسات العمومية (التي عرفت تطورا كميا ونوعيا في السنوات الأخيرة)، وتزايد حدة الإكراهات المالية للدولة التي تساهم الكتلة الأجرية للموظفين في تفاقمها[9]، جعل سؤال الإصلاح الإداري أكثر إلحاحا.

لقد كان الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى الثامنة عشر لعيد العرش يوم السبت 29 يوليوز 2017 محطة فارقة في تاريخ الإصلاح الإداري، كون اللغة التي تبناها ملك البلاد في تشخيصه لأعطاب الإدارة العمومية جاءت مباشرة وصريحة، وفي هذا الإطار يورد الخطاب “أن من بين المشاكل التي تعيق تقدم المغرب، هو ضعف الإدارة العمومية، سواء من حيث الحكامة، أو مستوى النجاعة أو جودة الخدمات التي تقدمها للمواطنين”.

واعتبارا لكون العنصر البشري يعد محور عمل هذه الإدارة ومرآة تعكس وضعيتها فقد جاء في الخطاب الملكي أن “العديد من الموظفين العموميين لا يتوفرون على ما يكفي من الكفاءة، ولا على الطموح اللازم، ولا تحركهم دائما روح المسؤولية. بل إن منهم من يقضون سوى أوقات معدودة، داخل مقر العمل، ويفضلون الاكتفاء براتب شهري مضمون، على قلته، بدل الجد والاجتهاد والارتقاء الاجتماعي”.

إن فشل كل مبادرات الإصلاح التي تبنتها مختلف الحكومات المتعاقبة في سبيل تغيير واقع الإدارة العمومية بصفة عامة والوظيفة العمومية بصفة خاصة زادت من قتامة صورة هذا الجهاز التنفيذي لدى المرتفق وحتى السلطة، إذ أصبح في نظرهم مرتعا لتفشي أمراض الرشوة والتعقيد وانعدام الكفاءة…

إن إيجاد تفسير لضعف منظومة تدبير الموارد البشرية بالإدارات العمومية بالرغم من الزخم الذي يحيط بهذا الموضوع وتعدد مبادرات الإصلاح يتجاذبه اتجاهان:

أ- الاتجاه الأول يرجع السبب إلى الممارسات والعادات التي تراكمت عبر سنوات بالإدارة العمومية المغربية، حتى أصبحت جزء لا يتجزأ من ثقافتها التدبيرية، وهذا ما يتضح جليا من خلال البون الشاسع بين الترسانة القانونية وواقع الممارسة.

يذهب الكثيرون إلى القول أن نواقص منظومة التدبير الحالية للموارد البشرية لا تعود إلى النصوص المنظمة[10]، بل إلى الأعراف السلبية التي تراكمت بالإدارة المغربية، حتى أضحت بمثابة “قانون بديل” يسيج العمل اليومي للمسؤولين في علاقتهم بالموظفين الخاضعين لسلطتهم. وعليه فإن حل معضلة تدبير العنصر البشري يقتضي فقط العودة لركائز نظام الوظيفة العمومية، بمعنى آخر إعادة الاعتبار لاختصاصات السلطة العامة التي جرى التنازل عنها تحت مبرر عدم الرغبة في خلق التوترات وفتح مواجهات مع الموظفين، أو لوجود توافق ضمني بين المنظمات النقابية والسلطات الرئاسية حول الإبقاء على امتيازات لصالح الموظفين بمباركة من الطبقة السياسية.

إن هذه الانحرافات تشكل كافة آليات التدبير سواء تعلق الأمر بالتنقيط أو الترقية أو الحركية أو الأجور أو ممارسة السلطة التأديبية…، حيث يسجل بخصوص تنزيل هذه الآليات تهميش معايير الاستحقاق والمصلحة العامة والتغاضي عن معاقبة سلوكيات التهاون…، وهو ما يتناقض مع القواعد النظامية التي تعطي على العكس من ذلك مكانة مهمة للاستحقاق والقيمة المهنية وتمكن من معالجة النواقص.

فبخصوص مسطرة التنقيط ينص ظهير 24 فبراير 1958 على أن “تعطى في كل سنة للموظف المباشر لوظيفته أو الملحق بإدارة أخرى نقط بالأرقام مصحوبة بنظرة عامة يفصح فيها عن قيمته المهنية”[11]، على أساس ألا يكون هناك تعارض بين النقطة الممنوحة والتقييم الوارد في النظرة العامة.

أما بالنسبة للترقية في الدرجة أو الإطار فإنها تتم بعد اجتياز امتحان الكفاءة المهنية، وعن طريق الاختيار حسب الاستحقاق، بعد التقيد في اللائحة السنوية للترقي[12]، والتي يتطلب تحضيرها دراسة عميقة لقيمة الموظف المهنية، وتعتبر في ذلك على الخصوص النقط التي حصل عليها والاقتراحات التي يبديها ويدعمها بالأسباب رؤساء المصالح، ولا يتم الاستعانة بمعيار الأقدمية في ترتيب الموظفين أثناء تقييدهم في هذه اللائحة إلا إذا تساوى هؤلاء في الأحقية[13]. بل إن معيار الاستحقاق حاضر حتى فيما يتعلق بالترقية في الرتبة[14].

إن نفس الأمر ينسحب على عمليات التعيين والنقل، فبعيدا عن المنطق الآلي الذي تتم وفقه، حيث يتم الاقتصار على معيار مصلحة الموظفين، يؤكد النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية على اختصاصات سلطة التدبير ويجعل من المصلحة العامة المعيار الأول في اتخاذ القرارات ذات العلاقة بهذه العمليات[15].

وفيما يتعلق بارتكاب الموظف لخطإ تأديبي، خاصة في حالة الإخلال بالواجبات المهنية، فإن النظام الأساسي للوظيفة العمومية ينص على لائحة عقوبات يعود فيها القرار النهائي (بعد توفير كافة الضمانات) للسلطة التسلسلية[16].كما أن افتقاد الموظفين الجدد للمؤهلات المطلوبة يعتبر مبررا قانونيا لتسريح هؤلاء تبعا للمقتضيات النظامية المعمول بها[17]. وعليه، لا يمكن التحجج بكون النصوص لا توفر للسلطة المسؤولة عن التدبير آليات التعامل مع حالات الافتقاد للكفاءة والمؤهلات أو السلوكيات المتنافية مع قيم الإدارة.

تتوفر الإدارات على هوامش مرونة مهمة لا يتم استغلالها، فمثلا تثبت الممارسة أن الإدارات تقوم في الكثير من الحالات بالاستجابة للحاجيات الجديدة أو الأولويات ببساطة من خلال زيادة الأعداد، عوض اللجوء لمساطر إعادة الانتشار والنقل أو التكوين المستمر بما يمكن من إعادة تأهيلهم. كما أن الإدارات تتعامل مع حالات الاندثار التدريجي لبعض المهام عبر وضع الموظفين المكلفين بهذه المهام في قاعة الانتظار ومن ثم إقصائهم عوض تغيير تعييناتهم.

بالنسبة للأجور يتاح للمسؤولين عن الموارد البشرية جانب مهم من حرية التدبير فيما يخص التعويضات العرضية التي تمنح عن بعض المصاريف التي يتحملها بعض الموظفين خلال مزاولتهم لأعمالهم، وكذا التعويضات التي تؤدى لهم مقابل بعض المهام التي يمارسونها، والأعمال الاستثنائية التي يقومون بها، والأتعاب التي يتحملونها، بمناسبة ممارستهم لواجباتهم المهنية، وبالتالي فإن هذا الأمر يمكن الإدارات من هامش تصرف تفتقده فيما يتعلق بالمرتب الأساسي والتعويضات القارة التي تحدد بمقتضى تنظيمي تبعا للدرجات التي يرسم فيها الموظفون.

كما نشير ضمن نفس السياق إلى مبدإ فصل الدرجة عن الوظيفة الذي يعتبر بدوره أحد دعامات نظام المسار، بحيث تعد الدرجة ملكا للموظف، بمعنى أنها تمثل حقا من حقوقه التي لا يمكن للإدارة منازعته فيها، في حين أن الوظيفة توضع رهن إشارة  السلطة الإدارية المعنية، وبذلك فهي تمتلك حرية واسعة بخصوصها تمكنها من أن تسند إلى الموظف الوظائف التي تراها مناسبة، وتقتضيها المصلحة العامة بغض النظر عما إذا كانت هذه الوظائف تتوافق مع الدرجة التي عين فيها.

من المفترض أن يؤدي إعمال هذا المبدأ إلى تثبيت حالة من التوازن بين مصلحة الموظف المتمثلة في حقه في الاحتفاظ بالدرجة المرسم فيها، والتي على أساسها يتم احتساب الأجرة التي يتقاضاها (بغض النظر عن التغيرات التي قد تطرأ على الوظيفة التي  يزاولها)، وبين مصلحة الإدارة التي تحتفظ بحقها في أن تنيط بالموظف تبعا لحاجياتها المهام والاختصاصات الأكثر ملاءمة  لمؤهلاته.

لكن، وبالنظر إلى واقع حال الوظيفة العمومية المغربية، يتبين أن الدرجة لا تمثل بالضرورة مهام الموظف، وهذه الفوارق بين الدرجات والوظائف تشكل أحد أبرز الصعوبات بالنسبة لمدبري الموارد البشرية، إذ تم اختصار تنزيل المبدإ في إيجاد ترتيب تسلسلي للموظفين، والتنصيص على “درجات وهمية” الغرض الأساسي منها تمكين الموظف من الارتقاء ماديا بالموازاة مع تطور مساره المهني.

ب- الاتجاه الثاني يرى في إخفاق تدبير الوظيفة العمومية امتدادات طبيعية لأزمة النموذج البيروقراطي، كون نظام وظيفتنا العمومية يعتبر “الإبن الشرعي” للنظام البيروقراطي وانحرافاته[18]، فمن المتوافق عليه أن الخصائص التي تميز وضعية الموظف في المجتمعات المعاصرة المنبثقة عن الثورة الصناعية قد تم التنظير لها من قبل ماكس فيبر من خلال تصوره للنموذج المثالي (l’idéal-type) للبيروقراطية، فقد اعتبر الموظفين في نموذجه البيروقراطي أحد المكونات الأساسية لتنظيم بيروقراطي مكلف بالتنفيذ بشكل مهني ومحايد لقرارات الحاكمين الذين يستمدون أيضا شرعيتهم الديمقراطية من انتخابات شعبية.

لقد عارض الباحثون المتشبعون بالمقاربات المستجدة لسوسيولوجيا التنظيمات النظرة السطحية والانصياعية للعون العمومي، وبينوا أن الموظف في الحقيقة يمتلك خيار الفعل وسلطة تأثير حقيقية. وقد ساهمت هذه الحركة في إعادة الاعتبار للعون العمومي بصفته فاعلا في النظام، وقادرا على مجاراة دوافع خاصة، وبالنتيجة تكييف سلوكه وفرض نفسه…[19]

إن البيئة المستقرة نسبيا التي سادت وقت وضع ماكس فيبر لتصوره حول النموذج البيروقراطي تجعل من هذا الأخير أداة تنظيمية ملائمة للسياق الذي وجدت فيه، إذ اعتبر حالة رائدة ومتقدمة في التنظيم الإداري آنذاك، وكان له الفضل في إحلال المنطق القانوني والعقلاني في تنظيم وإدارة الجهاز الإداري للدولة والمنظمات محل المنطق الارتجالي والاستبدادي الذي كان سائدا في ظل النظام الإقطاعي والملكية المطلقة المستبدة.

ينحو عالم الإدارة في الوقت الحاضر في اتجاه المزيد من اللاستقرار، مما يعني أن منطق اعتبار الجهاز الإداري نظاما مغلقا لا علاقة له بالبيئة الخارجية أصبح متجاوزا، وبالتالي أضحت الحاجة ملحة إلى إعادة النظر في طرق التنظيم التقليدية وعلى رأسها النموذج البيروقراطي، والبحث بالمقابل عن تنظيم إداري أكثر قدرة على التكيف، وأكثر استجابة ومرونة.

لقد انتقد Michel Crozier في كتابه “الظاهرة البيروقراطية” بشكل لاذع النموذج البيروقراطي، ووصفه باعتباره نظام تنظيم غير قادر على تصحيح نفسه بالنظر لأخطائه، وأن اختلالاته تعتبر إحدى العناصر الأساسية للتوازن. وقد أرجع افتقاد هذا النموذج للفعالية إلى أربع خصائص تميزه:

  1. مدى تطور القواعد غير الشخصانية التي تؤطر التصرفات وتحدد الوظائف وتحكم اختيار الأشخاص العاملين…، وهذه القواعد تحمي الموظف من التعسف وضغوطات الرؤساء، وتضمن له أيضا الاستقلالية والأمن.
  2. يتميز التنظيم البيروقراطي بتركيز القرارات، وهذا يعني أن سلطة القرار تبقى جد بعيدة عن مستوى التنفيذ، فالأولوية تعطى إذن لمشاكل السياسات الداخلية ومحاربة المحسوبية والتعسف، والحفاظ على التوازن بين مختلف أطراف النظام، على حساب مشاكل التأقلم مع البيئة. وينطوي تركيز القرارات أيضا على بعض الصرامة في التنظيم.
  3. انطواء كل فئة هرمية على نفسها وضغط المجموعة على الفرد، فالتنظيم يتكون من سلسلة طبقات لا تتواصل إلا قليلا فيما بينها، مما يؤدي إلى انعزالها عن بعضها البعض. فداخل كل طبقة يصبح لتأثير الأقران أهمية خاصة، وتصرف الفرد يكون تبعا لمصالح المجموعة قبل كل شيء. بالإضافة إلى ذلك فإن انعزال كل طبقة يسمح لها بمراقبة ما ينبثق من مجالها وتجاهل أهداف المنظمة بالمقابل.
  4. وأخيرا انتقد Michel Crozier تطور علاقات السلطة الموازية في التنظيم البيروقراطي، فالمنظمة لا يمكن أن تستبعد كل مناطق عدم اليقين داخلها من خلال مضاعفة القواعد غير الشخصانية. إضافة إلى أن السلطات الموازية تبدو في النهاية أكثر أهمية ما دامت المنظمة هرمية وغير شخصانية. كما أن الأفراد الذين يتحكمون في هذه المناطق يتوفرون على بعض السلطة وينجحون في الاستفادة من امتيازات مهمة[20].

إن إسقاطات هذه الانتقادات على نظام وظيفتنا العمومية جلية وواضحة، أبرزها الارتهان للمقاربة القانونية في التدبير، فتدبير الحياة الإدارية للموظف يحدد تبعا لقواعد منصوص عليها ضمن النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية ونصوصه التطبيقية، وبالتالي فإن العلاقة بين المسؤول عن تدبير الموارد  البشرية والموظفين تبقى محكومة ومقيدة في مجملها بما هو منصوص عليه ضمن مواد وفصول هذا النظام، الأمر الذي يتنافى ومنطق التدبير الحديث للموارد البشرية الذي يرتكز بالأساس على منح هامش أكبر من الحرية للمسؤولين عن التدبير.

إن مجموع القواعد القانونية التي يضمها نظام الوظيفة العمومية، والتي تمنح حقوقا وفي نفس الوقت تفرض التزامات، هي التي تحدد نموذج التدبير، وهذا ما يمكن أن يستشف مثلا على مستوى آلية الترقية التي تبقى مرهونة بمقتضيات  نظامية أبرزها الحصيص المالي الذي يعبر عن مقاربة ضيقة تنحصر في الحد من الانعكاسات المالية، مما قد يعتبر أحد أسباب الجمود من وجهة نظر المسؤول عن تدبير الموارد البشري الذي يعتبر الترقية  آلية من آليات تثمين الموارد البشرية.

على سبيل الختم

إن المتتبع لكرونولوجيا الإصلاحات التي تعرفها الوظيفة العمومية المغربية يصل إلى خلاصة مفادها أن الدولة لا نية لها في مراجعة التصور الحالي الذي يحكم مقاربة تدبير موظفي الدولة، وان الاتجاه هو الإبقاء على نظام المسار بالموازاة مع إدخال تغييرات من حين لآخر سواء على بعض مواد النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية أو مرتكزات التدبير (الترقية و التنقيط والتوظيف والهيكلة النظامية…)، ونعتقد أن مشروع المراجعة الشاملة للنظام الأساسي العام للوظيفة الذي انخرطت فيه الحكومة ما هو إلا استمرارية لهذا المنطق.

إن أكثر ما يعاب على نظام المسار، على الأقل في تصوره الأولى، عدم إيلائه الاهتمام الكافي لتوصيف الوظائف، وذلك بسبب طغيان المقاربة النظامية التي تتجسد من خلال مفاهيم الهيئة والإطار والدرجة. ويهدف إلزام مختلف الإدارات العمومية بإعداد الدلائل المرجعية للوظائف والكفاءات والشروع في إرساء قواعد التدبير التوقعي للموارد البشرية إلى إعادة الاعتبار لمفهوم الوظيفة، لكن يبقى هذا التوجه غير مكتمل ما لم يتم إعادة النظر في مقاربة تصنيف الوظائف التي تنبني على أساسها منظومة الأجور.

الأكيد أن التغيير الجذري الذي بدأت بعض الأصوات تنادي به[21] استنادا تارة لمبررات التغيرات التي مست دور الدولة وتراجعها لصالح القطاع الخاص، وتارة أخرى للصعوبات التي تواجه الميزانية العامة لا يتوقف فقط على إجراءات تقنية يكفي فيها الاستناد لتجارب مقارنة، بل إن الأمر أكبر وأعقد من ذلك بكثير، على اعتبار أن لكل دولة خصوصياتها التي يتداخل فيها ما هو اجتماعي واقتصادي وتاريخي، هذا ناهيك على أن العديد من الدول التي اختارت التوجه نحو خوصصة وظيفتها العمومية انتهى بها المطاف إلى نتائج عكسية، كما هو الحال بالنسبة لإيطاليا التي دشنت إصلاحا عميقا لوظيفتها العمومية انطلاقا من سنة 1993 حيث أن 5% من الوظائف فقط ظلت، من حيث المبدأ، تدبر من خلال علاقات القانون العام، إلا أن النتائج المنتظرة من حيث الفعالية وتبسيط التدبير وحسن الأداء لم يتم إثباتها بعد[22].

نعتقد أنه في الحالة المغربية (على الأقل في الوقت الراهن) لا بديل عن المزاوجة بين نظامي المسار والوظيفة -وهو خيار اعتمدته الكثير من الدول-، وذلك حتى تتمكن إداراتنا العمومية من الاستفادة من إيجابيات كلا النظامين، وقد يكون اعتماد المرسوم الصادر مؤخرا حول التعاقد خطوة البداية على هذا الطريق[23].


[1]– MOUDDANI Omar: Genèse, évolution et problèmes de la fonction publique marocaine, Revue des affaires administratives, imprimerie ARRISSALA, Rabat, 1984, p. 16.

[2] – MOUDDANI Omar: L’évaluation du processus d’adaptation de la fonction publique marocaine aux fins de développement. Collection de la faculté des sciences juridiques économiques et sociales, université  Mohammed V, édition de la faculté des sciences juridiques économiques et sociales de Rabat, imprimerie AGDAL-MAGHRIB 1984, p. 17 et 20.

[3] _ Hassan Ouazzani Chahdi, Exposé introductif, Quel statut pour quelle administration de demain ? Rabat, Le 21 Juin 1997, Série Acte de séminaire, no 2, p.12.

[4] _ ظهير شريف رقم 1.58.008 يحتوي على القانون الأساسي العام الصادر بتاريخ 24 فبراير 1958، الجريدة الرسمية عدد 2372 بتاريخ 21 رمضان 1377 الموافق ل 11 أبريل 1958، ص. 914.

[5]– ع. الحكيم البارودي: علاقة الموظف العمومي بالإدارة العمومية المغربية، أية علاقة، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، جامعة محمد الخامس، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، أكدال- الرباط، السنة الجامعية 2007-2008 ، ص. 62.

[6] _ Omar MOUDDANI, « Le système de carrière : un système perfectible », Le cas de la fonction publique marocaine, Quel statut pour quelle administration de demain ? Rabat, Le 21 Juin 1997, Série Acte de séminaire, no 2, .p. 43.

[7] – عبد الخالق علاوي: تدبير المسار المهني للموظف العمومي: نموذج  الترقية في الدرجة، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية عدد مزدوج 78- 79، يناير-أبريل، ، 2008، ص. 133.

[8] – الفصل 3 من ظهير 24 فبراير 1958 بشأن النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية.

[9] _ تعتبر نفقات موظفي الدولة من بين أعلى مكونات النفقات العمومية، حيث تمثل برسم سنة 2016 أكثر من 33% من الميزانية العامة وبمعدل سنوي يقارب 33,42% برسم الفترة الممتدة ما بين 2007 و 2016. كما بلغت الاعتمادات المخصصة لهذه النفقات خلال نفس الفترة أكثر من نصف ميزانية التسيير بمعدل سنوي بلغ 54,45%. أنظر:

– تقرير وزارة الاقتصاد والمالية الصادر بمناسبة تقديم مشروع قانون المالية لسنة 2017.

[10] -انظر بهذا الخصوص:

  – عبد الخالق علاوي: إصلاح النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية، وتطوير منظومة تدبير الموارد البشرية بالإدارات العمومية”، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، العدد 93، يوليوز-غشت، 2010، ص. 108.

[11] – الفصل 28 من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية.

[12] – الفقرة الثانية من الفصل 30 من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية.

[13]– الفصل 34 من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية.

[14]– “تتم الترقية في الرتبة بكيفية مستمرة من رتبة إلى الرتبة التي تليها مباشرة بناء على أقدمية الموظف وعلى النقطة العددية الممنوحة له”:

– الفقرة الأولى من الفصل 30 من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية.

[15]–  الفصل 24 والفصل 38 مكرر والفصل 38 المكرر مرتين من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية.

[16]–  الفصل 66 والفصل 71 من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية.

[17]– راجع الأنظمة الأساسية الخاصة بمختلف فئات الموظفين.

[18]– MECHERFI Amal, “La fonction publique au Maroc: de la gestion des personnels au management des ressources humaines”, Revue Marocaine d’Administration Locale et de Développement, No56, Mai-Juin 2004, p. 109.

[19] _ Yves Emery et Noémi Martin, Le service public au XXIème siècle, Identité et motivations au sein de l’après-fonctionnariat, Conception et dynamique des organisations, Editions L’Harmattan, P. 25 et 27.

      يمكن النظر إلى البيروقراطية من زاوية كونها طريقة تنظيم عقلاني يتوفر فيه الموظفون على ضمانات تحميهم من المحسوبية والتعسف، والتي تتحقق من خــــلال قواعد موضوعية. وتمثل البيروقراطية بالنسبة لماكس فيبر الأداة التطبيقية للهيمـنة الشـرعية العـقلانية.

[20] -Juliette Duveau, Les Primes Dans La Fonction Publique: Entre Incitation Et Complement De Traitement, These Pour Obtenir Le Grade De Docteur De L’universite De Rennes Ii Discipline: Sciences Economiques, Universite De Rennes Ii – Haute Bretagne Ufr De Sciences Sociales. P. 55 Et 56.

[21] _ راجع بهذا الخصوص مداخلة السيد إدريس الضحاك، الأمين العام للحكومة، الواردة في التقرير العام للمناظرة الوطنية حول المراجعة الشاملة للنظام الأساسي العام للوظيفة العمومية المنعقدة بقصر المؤتمرات بالصخيرات بتاريخ 21 يونيو 2013.

[22] _ Rapport à Monsieur le Premier ministre sur la fonction publique, Présenté par Bernard Pêcheur, Président de section au conseil d’Etat, 29 octobre 2013, p. 68.

[23] _ مرسوم رقم 2.15.770 صادر في 5 ذي القعدة 1437 (9 أغسطس 2016) بتحديد شروط وكيفيات التشغيل بموجب عقود بالإدارات العمومية، الجريدة الرسمية عدد 6491 بتاريخ 11 ذو القعدة 1437 (15 أغسطس 2016)، ص. 6052.

الأكثر رواجًا