عبد الرحمن المالكي، محمد عبابو

مختبر وسيولوجيا التنمية الاجتماعية

جامعة سيدي محمد بن عبد الله

أولا/ تطور المقاربات السوسيولوجية للصحة والمرض

تتعدد المقاربات السوسيولوجية والأنتروبولوجية التي تتناول مفهومي المرض والصحة بتعدد الثقافات والجماعات والأفراد واختلاف مستويات التقدم الطبي. وسنحاول في هذه المقالة القيام بجرد تركيبي لأهم تلك المقاربات.

إن الموضوع الذي شكل محور اهتمامنا في هذه الدراسة ([1]) هو تحليل التمثلات الاجتماعية للمرض، وهنا يبدو من المفيد التذكير بأن هذا الحقل من البحث حديث نسبيا. والرواد في هذا الميدان هم الأنتربولوجيون ([2]) في المقام الأول، ذلك أن العديد منهم قد عمل على تحليل مدى تأثير النماذج الثقافية على تمثل المرض. وانطلاقا من أعمالهم ([3]) يمكن أن نستنتج أمرين هامين: الأول هو أن تمثل المرض والممارسة الطبية يختلفان من مجتمع لآخر. والثاني هو أن التمثلات المتعلقة بموضوع الصحة مرتبطة بنسق المعايير والقيم الثقافية لكل مجتمع. وبالرغم من كون الأنتربولوجيين يعتمدون المقاربة الثقافية فإن هذه المقاربة تظل مفيدة بالنسبة لكل مهتم بالتصور الاجتماعي للمرض. وهكذا نجد أن علماء الاجتماع المهتمين بهذا الموضوع يستعملون مفهوم الفئة الاجتماعية بدل مفهوم المجتمع السائد عند الأنتربولوجيين: إن تمثل الصحة والممارسة الطبية، حسب علماء الاجتماع، يختلفان بحسب الانتماء لهاته الفئة الاجتماعية أو تلك ([4]). بل حتى من طبقة اجتماعية لأخرى ([5]). (يمكن أن نشير هنا على سبيل المثال للمقاربة الماركسية التي اهتم بتوضيحها عالم الاجتماع الفرنسي فرانسوا أباليا). أما بالنسبة لمعظم المقاربات السوسيولوجية الأخرى فإننا ننتهي من خلال استعراضها إلى خلاصة أساسية مفادها أنه لا يمكن فهم الممارسة الطبية إلا بوضعها في إطار النسق الثقافي / الاجتماعي السائد.

ويعتبر تالكوت بارسونز من أبرز علماء الاجتماع الأمريكيين الذين اهتموا بهذا الموضوع. وانطلاقا من نظريته الوظيفية سيعمل على تناول ظاهرتي الصحة والمرض معتمدا في ذلك على مفهوم “الدور” بدل مفهوم الفئة الاجتماعية السائد في السوسيولوجيا الأوروبية ([6]). وبحسب هذا العالم فإن لكل من الطبيب والمريض دور اجتماعي يؤديه. إن المنظور الوظيفي يعتبر المريض منحرفا اجتماعيا ([7]): “إن المرض يضع المريض على الهامش، لأنه لا يمكنه القيام بوظائفه العادية، ولا يستجيب لما ينتظره منه المجتمع”. ([8]) إن دور المريض إذن هو العمل على الخروج من حالة الانحراف هذه، وذلك من خلال علاج نفسه انطلاقا من نصائح ووصفات الطبيب. وبذلك يصبح مريضا جيدا. ومفهوم الدور هذا انتقد كثيرا من طرف كلودين هرزليش وسارة نتلتون اللتين تساءلتا عن جدوى هذا المفهوم، وبالنسبة لهما فإن “دور المريض” كمفهوم يمكن أن يكون صالحا في حد ذاته ولكن ما تنتقدانه هو المضمون الذي أعطي له: فـ”دور المريض” ليس في النهاية سوى نمطا مثاليا معياريا للسلوك الذي ينبغي على المريض أن يتبناه في المجتمعات الغربية وبالخصوص من طرف الطبقات الوسطى. وبتعبير آخر فإن هذا المفهوم لا يتطابق دوما مع الواقع المعيش كما هو الشأن في المجتمعات ذات الثقافة غير الغربية حيث تتم المزاوجة بين الطبين التقليدي والعصري خصوصا لما يتعلق بالأمراض المزمنة كمرض السكري.

وبالرغم من الانتقادات التي توجه للتصور المنطلق من “دور المريض” فإن بعض الباحثين لا زالوا يعتمدون على هذا المنظور في دراساتهم السوسيولوجية عن الصحة والمرض. وبهذا الصدد برى إيريك كانيون (E. Gagnon) أن الصحة هي الاستدلالية (L’autonomie)، ثم يخلص إلى “أن تمتع الفرد بالصحة يعني امتلاكه لقدرته الكاملة على المشاركة في الحياة الاجتماعية، وعلى لعب أدواره فيها، أي القدرة على الاندماج” ([9]) ومن ثم يصبح بالامكان حسبه إعطاء التعريف الإيجابي التالي للصحة.” “إن الصحة لم تعد وبالشكل السلبي المطلق هي انعدام المرض، وإنما هي القدرة على ممارسة أدوار” ([10]). إن هذا التعريف الإيجابي للصحة يلتقي مع التعريف الإيجابي الذي اعتمدته منظمة الصحة العالمية. ولكن الصحة (أو المعافاة) لا يمكن أن تدرك إلا إذا تمكنا من تعريف وقياس نقيضها، أي حالة الاعتلال أو المرض، وهي حالة نسبية وتختلف من فرد لآخر ومن مرض لآخر: “فكل التحقيقات الميدانية التي يمكننا الاطلاع عليها على المستوى العالمي تظهر أن الأغلبية الساحقة من الأفراد المصابين بأمراض مزمنة يقومون بتقييم ذاتي لحالتهم مفاده أنهم يتمتعون ب “صحة جيدة”، بل أحيانا ب ”صحة جيدة جدا”” ([11])؛ و من هذا المنظور فإن مفهوم “دور المريض” أو المرض كانحراف اجتماعي، لا يصدق دائما بالنسبة لجميع الأمراض، ولجميع الأفراد، وبالخصوص بالنسبة لحالة المرض المزمن، ذلك أن العديد من أبعاد الدور ليس لها من معنى بل قد تكون متناقضة مع أهدافها في حالة هذا النوع من المرض حيث الإعفاء المؤقت من الواجبات الاجتماعية لا يبرر حسب باسونز إلا لأن الغاية النهائية تكون بالنسبة للمريض هي العودة إلى حالة الصحة الأولى، وهذا غير ممكن بالنسبة للمرض المزمن.

وفي مقابل المنظور الوظيفي الذي دشن به بارسونز بداية الاهتمام السوسيولوجي بالصحة والمرض سيظهر في الستينيات من القرن العشرين اتجاه آخر يمكن تسميته بالاتجاه التفاعلي (Interactionniste) أو البنائي (Constructiviste) وهو الاتجاه الذي طوره بالخصوص إيليوت فريدسون ( (E. Freidson ([12]) الذي ينطلق – حسب كلودين هرزليش – من مقاربة تعتبر الطب منتجا لمقولتي الصحة والمرض باعتبارهما مقولتين اجتماعيتن. وبالنسبة لهذا المنظور فإنه لا ينبغي الخلط بين الواقع العضوي للمرض وبين واقعه الاجتماعي. إن الواقع العضوي هو المرض كما يتم بناؤه من طرف الطب والأطباء، فالمعرفة الطبية لا تعمل سوى على تجلية وتوضيح حالة المرض باعتبارها حالة انحراف بيولوجي وذألك بالمقارنة مع حالة سواء مفترض ([13]). وهكذا فإن فريدسون سيعمد من خلال النظرية التفاعلية الرمزية، إلى بناء المرض من خلال تقاطع بعدين أساسيين يتمثلان في: وجود أو عدم وجود سيرورة مرضية من جهة، ومن جهة أخرى هل تم إدراك هذه السيرورة من طرف الفرد المعني أم لا. ومن ثم يمكننا القول بأن “هناك أربع حالات ممكنة: حالة الفرد المعافى (لا وجود لأي سيرورة مرضية). ثم حالة المريض الخيالي (هناك “رؤية” لسيرورة مرضية غير موجودة). ثم حالة المريض المتجاهل (ليس هناك أي إدراك لمرض موجود بالفعل). وأخيرا هناك حالة المريض “الحقيقي” (الذي يرى نفسه مريضا ويرى كذلك من طرف الآخرين)([14]). إن هذا التصنيف (البنائي) الذي وضعه فريدسون يوضح إلى أي حد من الصعب الحديث عن المريض كحالة فريدة خالصة، كما يوضح أن الوصول إلى إدخال فرد ما في خانة المرضى أمر من الصعوبة بمكان، نظرا لتعدد حالات المرض ووضعيات المريض. وهكذا يرى فريدسون أن الأمر يتعلق في النهاية بوجود “مسالك مرضى” ((Des carrières de malades)، ذلك أن كل التفاعلات بين الطبيب والمريض ينتظمها التنافر الحاصل على مستوى الأهداف، وبتعبير آخر فمهما كانت الوضعية العلاجية لكل واحد منهما فإن المريض لا يمكن أبدا أن يكون متعاونا Coopératif)) لأن وجهة نظره تختلف جذريا عن وجهة نظر الطبيب. ومن ثم فإن كل ما يتفاوض المريض بشأنه في التفاعل العلاجي هو السعي للوصول إلى الاعتراف له بالحق في أن تكون له وجهة نظر مختلفة. ولهذا ينبغي اعتبار المريض فاعلا في مسلسل البناء المهني للمرض، وفي تقسيم العمل الطبي.

إن العمل الطبي من وجهة النظر التفاعلية يواجه صعوبات عدة لما يكون أمام الأمراض المزمنة مهما كان نوعها، وهنا لابد للباحث المهتم بهذا الموضوع من إدراك أنه إذا كانت الغاية النهائية لكل العمل الطبي هي الوصول إلى شفاء المرض، فإن الغاية الواقعية والعملية بالنسبة للأمراض المزمنة هي الوصول إلى ضبط المرض أو على الأقل الوعي بأعراضه ونتائجه المحتملة، وبهذا المعنى يتحدث “التفاعليون” عن مسألة تدبير المرض، وهي مسألة مشتركة بين سائر الأمراض المزمنة، وإن كانت هناك بعض الاختلافات بحسب نوعية وحدة المرض، وهذا ما يبرر الحديث عن البناء الاجتماعي للأمراض، وهو بناء ليس معطى بل عبارة عن سيرورة يمكن تناولها على اعتبار أنها سلسلة متتالية من المفاوضات تتم داخل العالم الطبي، ولذا ينبغي دائما السعي إلى فهم مكانة التفاعلات بين الأطباء والمرضى، والاهتمام بدورها الحاسم في إنجاز العمل الطبي.

إن المحاولات التي تطرقت للإشكالية النظرية المتعلقة بدراسة المرض المزمن قليلة جدا في الأدبيات السوسيولوجية التي تمكنا من الوصول إليها. ولذلك لم نقف أثناء تنقييبنا البيبليوغرافي إلا على دراسة متميزة واحدة وهي عبارة عن مقالة مركزة تلخص الاتجاهات النظرية في الموضوع وتشير في نفس الوقت إلى نتائج بحث ميداني انصب على حالة الأمراض المزمنة، ويتعلق الأمر بمقالة للباحثة الفرنسية “إيزابيل بازانجيه” نشرت بالمجلة الفرنسية للسوسيولوجيا سنة 1986.([15])

تنطلق صاحبة هذه الدراسة من تذكير أولي تشير فيه إلى أنه “بعد السيطرة على الأمراض المعدية والجرثومية فإن البلدان الصناعية تعرف اليوم تحولا في مشهدها الباتولوجي، ذلك أن أمراض القلب والشرايين، والسرطان، والسكري، والربو والكلى… أصبحت اليوم هي المشاكل الصحية الأكثر تأثيرا على الجماعة. إن الأمراض المزمنة تشكل من الآن فصاعدا الأمراض المهيمنة في مجتمعاتنا. ([16])

إن هذه الأمراض تتميز بشيء أساسي هو كونها أكثر “اجتماعية” من الأمراض الحادة المختلفة وذلك لأن المعرفة الطبية المتاحة والشك الذي يصاحبها جعلا منها أمراضا غير قابلة للشفاء النهائي ولذلك سميت بالمزمنة. وهذا التعبير الذي أصبح اليوم شائعا ومقبولا من طرف الجميع يستدعي حسب “بازانجيه” ضرورة الإشارة أولا إلى سمتين مشتركتين اثنتين، أولا مسألة مدة المرض: ذلك أننا لما نتحدث عن الأمراض المزمنة (أو الطويلة الأمد) فإننا نتحدث بالأشهر والسنوات؛ وبالفعل فإن المرض سيطول نفس المدة التي ستمتدها حياة الشخص المريض. إن المرض لا يشكل طارئا يمكن أن ينجلي في يوم من الأيام بالرغم من قساوة هذا الطارئ بالنسبة للحياة الخاصة والاجتماعية للمرضى ومحيطهم. وثانيا وعلى المستوى الطبي فإن الأمراض المزمنة تطرح مسألة تدبير المرض، ذلك أنه عوض الخطاطة المعتادة: عرض – تشخيص – علاج – شفاء (موت) ينبغي اعتماد خطاطة مفتوحة دوما على عدم اليقين، أو بتعبير آخر أي عوض الشفاء الذي يشكل نهاية المطاف سيتم الشروع في مسلسل تدبير الزمانة اليومية ([17])

إن مسألة التدبير اليومي للمرض لا تقتصر فقط على العمل الطبي فقط أو على تكييف العلاج بالنسبة للمريض، إنها تعني أن المرض يتحول نظرا لمدته إلى حدث اجتماعي بالنسبة لكل الفاعلين المباشرين وغير المباشرين: المرضى، المهنيون الطبيون، الأسرة، العمل. إن المرض المزمن يجعل عالم المرض أكثر اتساعا ولا يقتصر لا على عالم الأسرة ولا على عالم الطب فحسب. إنه عالم يمتد إلى كل نواحي الحياة الاجتماعية، ولمدة زمنية غير محدودة.

إن الأمر بالنسبة للأمراض المزمنة يتعلق بنمط مرضي حديث نسبيا لذلك فإن علاجه وطريقة التعامل أو التعايش معه يستدعيان القيام بتمرين علاجي واجتماعي، وهذا التمرين هو اليوم في طريقه إلى أن يصبح مقبولا ومحترما من طرف المرضى ومحيطهم. إن الأمر يتعلق بوضع اجتماعي جديد يجد المريض نفسه مضطرا للتأقلم معه، ولذلك فبعد فترة الشك والحيرة والارتياب والخوف، ينتهي المريض إلى قبول ومعرفة وضعه الصحي والاجتماعي الجديد، وهذا ما يجعل علماء الاجتماع يتحدثون عن إعادة بناء للوضع الاجتماعي، وذلك بالخروج من تناقضات وشكوك الوضع الانتقالي الذي يلي اكتشاف المرض وطبيعته المزمنة. فكيف يبني المريض استراتيجيته الحياتية الجديدة؟ وكيف يخلق وينمي علاقاته الجديدة، وهل تظهر على السطح قيم ومعايير حياتية وأخلاقية جديدة عند المريض؟ إن إثارة وطرح مثل هذه الأسئلة يبرز ويوضح ضرورة البحث عن إطار نظري للتأمل والتفكير، وطبيعة الأسئلة والتساؤلات التي تطرح تبرر وجاهة تبني المقاربة السوسيولوجية التي تعتمد الفهم والتأويل.

انطلاقا من المقاربة “الفهمية” تنطلق إيزابيل بازانجيه في اقتراح مدخل نظري ترى أنه الأنسب لتناول “المرض المزمن” سوسيولوجيا، وهذا المدخل يعتمد على نظرية سوسيولوجية مستوحاة من تيار “التفاعلية الرمزية” هي نظرية “النظام المتفاوض بشأنه” Théorie de l’ordre négocié. إن هذه النظرية تنطلق من تعريف الأمراض المزمنة بكونها أمراضا تخلق عالما اجتماعيا خاصا بها يتفاوض أطرافه بشأن نظامه، أي أننا مع الأمراض المزمنة نجد أنفسنا أمام بناء تفاوضي للمرض، لأن الأمر يتعلق بإعادة تعريف لتوزيع المهام بين الأطباء والمرضى، وبإعادة ترتيب للوضع الاجتماعي الجديد الذي يمكنه انتظام الأنماط السلوكية الجديدة.

إن وجهة النظر التفاعلية تحاول الوصول إلى إبراز ما تسميه “بازنجييه” بالبعد المفارق للأمراض المزمنة والذي يتجلى في كونها في نفس الآن وبطريقة متكررة قطيعة واستمرارا بالنسبة للفاعلية وفي العديد من مجالات الحياة الاجتماعية.

إلى جانب الاتجاهين الوظيفي والتفاعلي، ظهرت مقاربة جديدة للمرض والمريض، وهي المقاربة التأويلية التي اعتمدها كل من ك. هرزليش C. Herzlich، وج. بييري J. Pierret، وم. أوجيM. Augé ([18]) وهذه المقاربة تهتم من جهة بالطريقة التي يعطي بها المريض ومحيطه الاجتماعي معنى أو تأويلا للمرض، و من جهة أخرى كيف أن هذا المعنى أو التأويل يمكن أن يكون له تأثير على سلوك الأفراد. وبهذا الصدد تقول كلودين هيزري. “إن المرض يظل دائما حدثا مؤلما يستدعي تأويلا هو غير التأويل الفردي بالضرورة؛ بل تأويلا جماعيا مشتركا بين كل أعضاء نفس الجماعة في المجتمع، ولكنه تأويل يضع المسؤولية أيضا على المجتمع ويفضح عن نوع علاقتنا مع ما هو اجتماعي. إن البعد الاجتماعي للمرض، يكمن في – وهنا تلتقي السوسيولوجيا مع الأنثروبولوجيا – كونه يشتغل كدال (signifiant) حامل لمعنى علاقاتنا مع الاجتماعي” ([19]). إن المرض يخضع لتأويل اجتماعي جماعي “ونظرا لكونه يستدعي التأويل فإن المرض يتحول إلى حامل معنى أي دال يتمثل مدلوله في علاقة الفرد بالنظام الاجتماعي، إن هذه الأسئلة وأجوبتها يمكن أن تظل ثانوية نسبيا بالنسبة للطبيب، ولكن ينبغي أن تكون لها الأهمية الأولى من طرف عالم الاجتماع. ([20])”

وبغض النظر عن النقد الذي يوجهه هذا المنهج لبرسونز فإننا نلاحظ أنه يعتمد على الموروث الأنتروبولوجي وبالخصوص تأثير القيم الثقافية على الفهم والممارسة الذين يتبناهما الأفراد في مواجهة المرض.

إن هذه المحاولة التركيبية المختزلة لأهم الاتجاهات السوسيولوجية التي تناولت موضوع تمثل المرض والصحة، تساعدنا على إدراك أكثر وضوحا للإشكاليات والصعوبات التي يمكن أن تعترض الدارس في هذا المجال. ومن غير شك فإن تلك الصعوبات ستكون أكثر أهمية وإثارة لما يتعلق الأمر بدراسة ظاهرتي الصحة والمرض في المجتمعات المسماة “تقليدية”. والدليل على ذلك هو تدفق المعاني التي يمكن أن يعطيها الأفراد لنفس المرض ويرجع ذلك بالخصوص إلى كون الأفراد في هذه المجتمعات أكثر ارتباطا بالقيم الدينية والثقافية والطقوس والوصفات التي لا يبخل عليهم بها الطب الشعبي. ومع ذلك لا ينبغي علينا أن نسقط في الفخ الثقافوي وذلك بوضعنا لكل التمثلات في قالب التقليد. فهل لابد بالنسبة لدارس تمثلات المرض من تبنى إطار نظري مسبق: ثقافيا كان أو ماركسيا أو وظيفيا أو تأويليا أو تفاعليا؟

إن تنوع الاجتهاد النظري ينبع من تنوع وتعقد الظواهر الاجتماعية؛ ودراسة الواقع هي التي يمكن أن تقربنا من هذا المنظور أو ذاك. إن مناهج وتقنيات البحث يمكن أن تحدد قبليا، أما التفسير النظري فشيء بعدي.

ثانيا / الصحة والمرض على ضوء التمثلات الاجتماعية

1/ حول مفهوم التمثلات الاجتماعية

إن مفهوم “التمثل” يعني في اللغة العادية “تكوين الفرد في ذهنه لصورة ما عن شيء ما”، وفي إطار الصحة والمرض يمكن القول بأن الفرد قد يتمثل أسبابا للمرض تكون عبارة عن تصورات ذهنية (أو خيالية أو خرافية أو واقعية…). والسؤال الذي يمكن لعالم الاجتماع المهتم بالذهنيات والتمثلات أن يطرحه هو: هل الصورة التي يكونها الفاعل الاجتماعي الذي قد يكون هو المريض مثلا، هي صورة مصدرها معتقد ما، أو تربية ما، أو انتماء اجتماعي أو ثقافي ما، أو بيئة اجتماعية ما…؟ إن المصدر “الخارجي” للتمثلات لا يقنع الفرد أو يعفيه من الاعتقاد دائما بأن تلك التمثلات هي تمثلاته الذاتية والشخصية وذلك من خلال عملية التمثل والاستبطان التي تفعل فعلها من خلال وبمساهمة مختلف مؤسسات التنشئة الاجتماعية (الأسرة، المدرسة، الوسط، وسائل الأعلام، التثقيف الذاتي ….).

والغاية من خلق أو تبني أو البحث عن “تمثلات” تكمن أساسا في حاجة الفاعل الاجتماعي النشيط إلى المزيد من المعرفة وباستمرار، وبذلك فإن عملية التنشئة الاجتماعية هي عملية لا تقف عند حد أو سن معين، وهذا ما يعبر عنه جون لادرييير (J. Ladrière)، وهو يحاول الربط بين مفهوم التمثل ومسألة المعرفة بالقول: “يمكن أن نميز في فعل المعرفة بين قطبين اثنين: القطب الذات والقطب الموضوع. إن القطب الذات يعني المقام الذي ينتج التمثل بشأنه: إنه الوعي، أي الواقع الإنساني باعتباره قادرا على إدراك ذاته، وإدراك الواقع الذي يغمره…، ولكي يحصل فعل المعرفة ينبغي أن يكون هناك فعل إيجاد، (…)، استبطان لواقع معروف، إنتاج لهذا الواقع في مجال الوعي: إنه التمثل بالمعنى المجازي الأول. ولكن بما أن الموضوع الواقعي نفسه لا يمكنه أن يأتي ليندرج في دائرة الحياة الذاتية، فلا بد إذن من تدخل وساطة معينة، لكي يصبح حاضرا بمساعدة وسيط: إنه التمثل بالمعنى المجازي الثاني ([21])

ولقد ساهم العديد من علماء الاجتماع والانتربولوجيا وعلم النفس الاجتماعي في دراسة ظاهرة “التمثل”. ويمكن القول أن لكل تخصص من تخصصات العلوم الإنسانية تعريفه الخاص لمفهوم “التمثل الاجتماعي”، ولكن قراءتنا لنصوص متعددة داخل حقل هذه العلوم والمتعلقة بهذا الموضوع جعلتنا ننتهي إلى استنتاج أن هناك جذع مشترك يجمع مختلف التعاريف. هذا الجذع يمكن أن نلخصه في المحاور السبع التالية:

  1. أن كل تمثل هو شكل من المعرفة العملية التي تربط ذاتا ما بموضوع ما. أنها عملية بناء لصورة من طرف الذات عن موضوع ما: إن المريض مثلا يبني صورة عن مرضه.
  2. إن كل تمثل هو نقطة التقاء بين الفردي والجماعي، أي أنها تعني الفرد كما تعني الجماعة والمجتمع في نفس الوقت.
  3. من أجل فهم الميكانيزمات التي تساعد على تكوين تمثل اجتماعي معين ينبغي إذن تحليل العلاقة بين عدة محاور في نفس الوقت: النفسي والعاطفي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والديني.
  4. إن التمثل ليس فقط هو بناء لصورة عن شيء ما، أو المعرفة التي ننتج، ولكنه أيضا الحكم أو التقييم الذي نحمله أو نكونه عن ذلك الشيء. فلما يعتقد المريض أن السبب في مرضه هو عامل خارجي ما (كالمشاكل داخل العائلة، أو القضاء والقدر..) فإنه هنا يحمل حكما عن مرضه. وهذا الحكم نفسه يتم بناؤه انطلاقا من الانتماء السوسيو – ثقافي للفرد أو انطلاقا من مقولات فكره التي يكون اكتسبها من ثقافته أو مجتمعه.
  5. إن تمثلا ما لا ينحصر في معرفة موضوع معين، وليس مجرد خطاب عن واقع ما، إنه وسيلة للفعل بالنسبة للأفراد.
  6. إن كل تمثل هو تمثل اجتماعي ومعرفي في نفس الوقت: “إنه تمثل معرفي نظرا لكونه يفترض القيام بعملية معرفية لمعالجة المعلومة المتلقاة، وتأويل موضوع معين، وكذا البرهنات التي تتيحها هذه المعلومات أو ذاك الموضوع. ولكن فعل المعرفة هذا يتم تنشيطه بممارسة معينة، كما يتم التأثير عليه من طرف الخطاب الرائج في المجتمع. وبهذا المعنى فإن كل تمثل هو تمثل اجتماعي، ومن ثم يكون مرتبطا بالثقافات وبالأيديولوجيات والممارسات”([22])
  7. يتضمن كل تمثل قسطا من العاطفية واللاعقلانية، لأن كل تمثل يعتمد على صورة – عقيدة لكي يتم بناؤه. وذلك بخلاف النظرية التي تعتبر عملية عقلنة للصورة أو الصور التي يكونها المريض عن مرضه.

إن دراسة التمثلات الاجتماعية السائدة عن الصحة والمرض في المجتمع تهدف في نظر كلودين هرزليش إلى البرهنة من خلالها على وجود نسق فكري منسجم، مكون من مفاهيم مستقلة سائدة عن الصحة والمرض. مستقلة عن مقولات المعرفة الطبية. إن دراسة التمثلات الاجتماعية تظهر بوضوح أن اللغة التي يعبر فيها عن الصحة والمرض، ليست لغة جسم الكائن العضوي: ولكنها لغة العلاقة بين الفرد الخاضع للتنشئة الاجتماعية الخارجية وبين المجتمع” ([23]).

وإذا ما عدنا لدركايم فإننا نجد لديه تصوره الخاص لمفهوم التمثلات، حيث يرى أن التمثلات الاجتماعية “تنبثق من العلاقات التي تنعقد بين الأفراد المجمعين هكذا، أو بين الجماعات الثانوية التي توجد بين الفرد والمجتمع الكلي […]. وإذا كنا نذهب إلى القول بأن التمثلات الجماعية خارجية بالنسبة للوعي الفردي، فذلك لأنها لا تنبع من الأفراد طالما ظلوا معزولين عن بعضهم البعض، ولكن من اجتماعهم؛ وهذا شيء مختلف تماما. ومن دون شك، فإن النتيجة المشتركة تتضمن نصيبا من كل طرف، ولكن الأحاسيس الخاصة لا تصبح اجتماعية إلا لما تنصهر تحت تأثير قوى خاصة جدا تنمو وتتفاعل بفضل الاجتماع… ([24]). من الواضح هنا أن دركايم وانطلاقا من منظوره الخاص للظاهرة الاجتماعية يفصل فصلا واضحا بين التمثلات الفردية والتمثلات الجماعية، بل ويتحدث عن استقلال كل نمط من التمثلات عن الآخر. ولكننا في الواقع لا يمكننا إلا الإقرار بوجود تفاعل بين النمطين المذكورين، إن الفرد من خلال سيرورة سيكولوجية يستبطن التمثلات الجماعية ويجعلها تمثلاته “إن تمثل شيء ما أو حالة ما ليس مجرد استنساخه أو تكراره أو إعادة إنتاجه، بل إعادة تشكيله وتكوينه وتغيير تعابيره (…). أن هذه البناءات المادية لما تكتمل تنسينا أننا نحن الذين بنيناها.” ([25]) ولذلك يمكن القول بأن العلاقة بين المستويات الفردية والمستويات الجماعية للتمثل لا تعني فقط مجرد قولبة فكر فرد ما بواسطة تمثل اجتماعي، ولكنها تعني بالأحرى إعادة بناء “قالبي” من خلال إعادة استذكار لقطة واقعية معينة من بين لقطات أخرى متواجدة في نفس الوقت وفي إطار نفس المركب. وعليه فإن هناك داخل بين التمثلات الجماعية والتمثلات الفردية.

إن دراسة التمثلات والسعي إلى معرفتها والبحث عن أسبابها وأنماطها وظروف تشكلها، تعتبر من المواضيع التي أصبحت تستأثر باهتمام علماء الاجتماع وعلماء النفس الاجتماعي في السنوات الأخيرة وبشكل يكاد يكون شاملا، وذلك راجع لكون هؤلاء العلماء أدركوا بما لا يدع أي مجال للشك أن هذه التمثلات مهما كانت صائبة أو خاطئة هي التي تحدد سلوك الفاعل الاجتماعي وتوجهه في اختياراته وممارساته. وهذا الموضوع البالغ الأهمية كان من المواضيع الغائبة عن اهتمام علماء الاجتماع وذلك بالخصوص في الفترات التي هيمن فيها نمط من التفكير كان يعطي الأولوية للعوامل المادية (أو ما كان يسمى بالبنية التحتية) في تحديد الفكر والتمثلات (أي ما كان يسمى بالبنية الفوقية). والواقع أن المستويين يتبادلان التأثير بشكل دوري، ويختلف هذا التأثير من حيث الحدة والاتساع باختلاف أوضاع الأفراد الاجتماعية والنفسية والثقافية. وإدراكا منا لهذا التحول، وللأهمية التي ينبغي أن يوليها علم الاجتماع للتمثلات الاجتماعية حاولنا أن تكون هذه الدراسة منخرطة في هذا التوجه الفكري الذي لا يمكن اعتباره جديدا بالنسبة لهذا العلم، بل امتدادا لنفس التوجه الذي نجده عند أ. كونت، وإ. دركايم، وم. فيبر، وغيرهم من علماء الاجتماع المحدثين.

2/ تمثل المرض والصحة عند المريض.

إذا كان الطبيب – كما سنرى ذلك لاحقا – يبحث عن الأعراض البيولوجية — الطبية عند المريض ويسعى إلى تأويلها اعتمادا على معرفته الطيبة الثابتة والمحددة سلفا، فإن المريض له هو أيضا حكمه الخاص عن حالته الصحية، وعن مصدر مرضه، وحتى أحيانا عن الطريقة الأنجع لمداواته. وفي هذا النموذج التفسيري أو في تمثل المريض هذا لمرضه فإننا نجد أن هناك حضور وتأثير للبعد الفردي، والاجتماعي، والثقافي … إلخ.

إن كل مريض يطرح على نفسه السؤال التالي: “ما السبب في إصابتي بهذا المرض؟”، “وكيف أصبت به؟” ومثل هذه الأسئلة يطرحها الإنسان على نفسه حتى لما يتعلق الأمر بالأمراض الخفيفة أو السهلة العلاج، فما بالك لما يتعلق الأمر بالأمراض الخطيرة أو المزمنة؟

1.2- تمثل أسباب المرض من طرف المرضى.

هناك حسب الأنتربولوجي فرانسوا لابلاتين (F. Laplatine) نموذجين تفسيريين مهيمنين على تمثل أسباب المرض عند المرضى: نموذج خارجي، ونموذج داخلي.

في النموذج الأول يعتبر المرض ناتجا عن تدخل عنصر خارجي (واقعي أو رمزي) عن الفرد. ولما يتعلق الأمر بعوامل واقعية أو موضوعية فإننا نتحدث عن “التسمم (تسمم بسبب مادة ما كالدخان، أو التلوث، أو عناصر كيماوية معينة في التغذية، أو اعتبار السكر هو السبب في مرض السكري، أو الملح هي السبب في ارتفاع الضغط الدموي … إلخ). وهنا فإن الملاحظ هو أن الأفراد لا يضعون موضع اتهام سلوكهم الغذائي الشخصي، أو نادرا ما يفعلون. بينما الأسباب الرمزية (أو ما بعد الطبيعية) قد يبدو أنها الأكثر انتشارا خصوصا في المجتمعات التقليدية حيث الثقافة الطبية لا زالت لم تتجذر بعد. وفي أفريقيا التي يأخذها “لابلاتين” كنموذج فإن سبب المرض يتم إرجاعه في الغالب إلى السحرة، أو الجن، أو أرواح أجداد قدامى … إن المريض قد يكون اعتدى أو أغضب إحدى تلك القوى الخارقة دون أن يدري ومن ثم يصاب بالمرض. ويصبح مملوكا لتلك القوى الخبيثة. وللتكفير عن خطاباه ينبغي على المريض اللجوء لبعض الطقوس المتبعة في القبيلة أو في الجماعة التي ينتمي إليها المريض.

إن تصور “لابلاتين” هذا لا يختلف في شيء عن الخطاب الأنتروبولوجي التقليدي الذي يعتبر إفريقيا محمية للتقاليد وأن سلوكات المرضى وتمثلاتهم تبنى وفقا لذلك التقاليد. وإذا كان صحيحا أن التقاليد والقيم والمعايير الثقافية تلعب دورا أساسيا في تبلور التمثل الذي يكونه المريض عن مرضه، فمن غير الصائب اعتبار هذا العامل هو العامل الحاسم. إن الرجوع إلى الانتماء الاجتماعي للفرد بشهد على أن التمثلات تختلف لما ننتقل من فئة الأميين إلى فئة المتعلمين، ومن الفقراء إلى الأغنياء ومن الإناث إلى الذكور، ومن جيل الشباب إلى الشيوخ. ومن الأكيد كذلك أن الخطاب الطبي – البيولوجي قد شق طريقه إلى الأجيال الشابة والمتعلمة من السكان. ولكن لا ينبغي أن نستغرب أننا في هذه القارة نلاحظ تواجدا صراعيا أحيانا وتوافقيا أحيانا أخرى بين التمثل البيولوجي – الطبي والتمثل الشعبي للمرض، وذلك عند نفس الجماعة، وحتى عند نفس الفرد. ففي المغرب مثلا وخلال هذا البحث لاحظنا أن بعض مرضى السكري الذين استجوبناهم والذين ينتمون إلى فئات مرتفعة المستوى التعليمي يدافعون في نفس الوقت عن الخطاب البيولوجي – الطبي، وفي نفس الوقت لا ينفون أن “العين” أو ”القدر” يمكن أن يكونا سببا في إصابتهم بالمرض.

والنموذج الثاني لتمثل المرضى هو النموذج الداخلي، أي أن المرض يأتي من داخل الذات. فبعض مرضى السكري المغاربة مثلا لا يترددون في إثارة الوراثة عند الحديث عن أسباب الإصابة، كما يتحدثون عن الأسباب النفسية: إن أغلبيتهم كما سنرى ذلك فيما بعد يفسرون سبب إصابتهم بالسكري “بالفقسة”، وبالطبع فإن مدلول هذه الكلمة يظل غامضا، لأن هذا السبب قد يمتد من القلق البسيط إلى الأزمة العصبية الحادة. وهناك بعض المرضى الذين يعيدون تأويل الخطاب الطبي – البيولوجي ويؤكدون، عن خطأ أحيانا، أن لديهم استعدادات إما نفسية أو عضوية للإصابة بهذا المرض أو ذاك.

وإذا كان التصنيف الذي حاولنا توضيحه أعلاه مفيدا، ويساعد على توضيح مفهوم التمثل الاجتماعي، فمن غير المستغرب أن نلاحظ أحيانا التداخل والخلط الممكنين أو القائمين بالفعل بين النموذج الخارجي والنموذج الداخلي: إن سبب المرض يفسر من طرف المريض من خلال سيرورة يخلط فيها بين النموذجين، وحيث أن كل نموذج يمكن أن يفضي إلى الآخر، كما هو الشأن مثلا بالنسبة لهذه المرأة المغربية المصابة بالسكري والتي تقول: “إذا كنت أصبت بالسكري فالسبب هو أن أولادي عاطلون عن العمل، وأنني كلما رأيتهم يسرحون في الطرقات بدون فعل أي شيء، فإن ذلك يحطمني، وأشعر بالانهيار. وإن “الفقسة” هي سببي في المرض …”

وإذا كان من الممكن أن يتبنى عالم الاجتماع مثل هذا التصنيف وذلك بالنظر إلى جدواه النظرية، فإنه من الأكيد أن “مصدرية” (Etiologie) المرض تظل مع ذلك متعددة بالنظر إلى الخطاب المتداول بين المرضى، إلى حد يمكن القول معه بأن كل مريض “له تفسيره الخاص لمرضه”. إن هذه “المصدرية” التي يلجأ إليها المريض لتعليل إصابته غالبا ما تنشأ من تفاعل بين تاريخه الشخصي (العاطفي، الأسري، أو المهني …) وبين محيطه أو بيئته الاجتماعية والثقافية. ومثل هذا الطرح الذي ينتهي بيه علماء الاجتماع والأنتربولوجيا يختلف تماما بل ويتعارض مع “المصدرية” الباستورية والطبية – البيولوجية للمرض والتي نتلخص في أن المرض يعود أساسا وقبل كل شيء إلى التمفصل الكبير بين العرض والفاعل الجرثومي، والفعل الممارس على هذا الفاعل ([26]). كما أن نفس الطرح يتعارض أيضا مع “المصدرية” الوبائية التي تدعي أن بإمكانها لوحدها “موضعة” الحالة الصحية للسكان من خلال اعتماد مؤشرات امبريقية يتم اختيارها بشكل عادي وتدعى “عوامل الخطر”(Facteurs de risques): معدلات الوفيات، أو التعرض للموت، أو مدى الاستهلاك الطبي إلخ. ومن ثم فإن هذا المنظور يحبس نفسه في ظل عقلية وضعية امبريقية، وذلك انطلاقا من فكرة مسبقة مفادها أن التجريب هو مصدر كل معرفة علمية ([27])، ومن ثم يتم تجاهل كل العوامل النظرية.

إن تعددية المعاني التي يعطيها المريض لمصدرية مرضه نجدها أكثر وضوحا عند مرضى السكري بالمغرب كما سيتضح لنا ذلك لما نتطرق لنتائج البحث الميداني، وتكتفي هنا بالإشارة إلى أن العديد من المرضى يرجعون سبب إصابتهم إلى عدة عوامل في نفس الوقت يتداخل فيها ما هو نفسي (الفقسة) بما هو ديني (القضاء والقدر) بما هو اجتماعي (مشاكل عائلية، اقتصادية، مهنية…)، الخ.

إن عالم الاجتماع وهو يتساءل عن سبب هذه التعددية في تمثل أسباب المرض عند المستجوب، يمكنه في نفس الوقت أن يختبر مدى أهمية تأثير الانتماء السوسيو – ثقافي، والسوسيو – اجتماعي، والسوسيو- اقتصادي، وكذا المستوى التعليمي، والسن، والجنس، أو بكلمة واحدة، مدى قوة أو ضعف تأثير ما يمكن تسميته بالمتغيرات الاجتماعية المستقلة على كل نمط من أنماط التمثلات التي يمكن أن يسعى المريض إلى تفسير مرضه من خلالها.

2.2- تمثل علاج المرض من طرف المرضى.

بمقابل هذه التعددية التي تلاحظ على مستوى أسباب المرض هناك تعددية على مستوى المسارات العلاجية ([28])، ولقد لاحظ “ديديي فاسان” (Didier Fassin) هذه التعددية بدوره حيث يرى: “إن مسار المريض في بحثه عن التشخيص والعلاج هو عبارة إذن عن محصلة لمرجعيات منطقية متعددة، ولأسباب بنيوية (نسق تمثل المرض، مكانة الفرد في المجتمع) وأسباب ظرفية (تغير الوضعية المالية، نصيحة أحد الجيران)، وهذا ما يجعل كل محاولة للتقعيد الدقيق تبوء بالفشل (….) ومن ثم ضرورة استحضار أحداث الظرف الزمني التي استدعت اللجوء للعلاج، وذلك في علاقتها بالعوامل الاجتماعية التي تقتضيها.” ([29])

وبالنسبة للأمراض المزمنة، فإن كل محاولة لتحديد نسق واضح للمسارات العلاجية ستكون أكثر صعوبة وتعقيدا، لأن المرض في هذه الحالة بالإضافة إلى الأسباب البنيوية والظرفية يمر بعدة مراحل: مرحلة رفض المرض، فمرحلة قبول المرض، ثم أخيرا مرحلة تعاون المريض مع الفاعلين المعالجين. وبعبارات أخرى فإن عامل مدة المرض ينبغي أخذه بعين الاعتبار عند محاولة تفسير الطريقة التي يتعامل بها المريض مع العلاج الذي يطلبه أو الذي يقدم له. فكلما كانت هذه المدة أطول كلما أدرك المريض أن حظوظ شفائه أقل، وأن ما يقدمه له العلاج الطبي – البيولوجي ليس في نهاية الأمر سوى وسيلة للمساعدة على تدبير التعايش اليومي مع المرض. ففي مختلف المسارات العلاجية المتعلقة بالمرض المزمن يجب العمل على الأخذ بعين الاعتبار لدور المتغيرات الاجتماعية. إن هذه المسارات تتأثر أيضا وبشكل قوي بالبيئة الثقافية للمريض. وانطلاقا من حالة المجتمع المغربي يمكننا الإشارة على سبيل المثال إلى التواجد المتوازي لنسقين علاجيين أساسيين: النسق الطبي – البيولوجي، والنسق الشعبي التقليدي. وهذا النسق الأخير هو نسق مركب يمكن أن نجد فيه عدة أنسقة فرعية تختلف من حيث الممارسات والمعارف باختلاف المناطق الجغرافية والانتماءات الإثنية والثقافية (أمازيغية، صحراوية، عروبية، شاطئية، شمالية، جنوبية، شرقية …). وإلى جانب الاستعمال العادي والواسع الانتشار للأعشاب الطبية هناك من المرضى من يلجأ في بعض الأحيان إلى “الدين” وأحيانا أخرى إلى الشعوذة أو السحر كوسيلة من وسائل العلاج: كالتداوي بالتمائم، أو التعاويذ، أو بعض الأعشاب أو الأتربة أو الأحجار التي يمكن أن تسمى أو تعتبر “مقدسة” أو ذات قدرات شفائية خارقة. ولهذا نجد هناك علاقة قوية بين الفقيه التقليدي وبين التدخل العلاجي وزيارة بعض الأضرحة والزوايا أو التبرك ببعض الأولياء التماسا لشفاء من مرض طال أو استعصى على العلاج. واللجوء إلى الطب الشعبي التقليدي أو إلى الطب العلمي الحديث لا يرتبط دائما – كما تؤكد ذلك السعدية الراضي ([30]) بمصدرية المرض أو بالسبب الذي يمكن للمريض أن يرجع إليه مرضه، وإنما يرتبط أكثر بالتمثل الذي يتكون لدى الفرد عن تلك المصدرية، وعن الوسائل العلاجية الناجعة أو الرائجة في الوسط الذي يعيش فيه، ذلك أنه وحتى في الحالة التي يعتقد فيها المريض أن مصدر مرضه بيولوجي محض، فإن ذلك لا يمنعه من اللجوء سويا إلى العلاج الطبي – البيولوجي وإلى زيارة الأولياء والأضرحة، هذا دون أن ننسى أن اللجوء إلى الأعشاب الطبية التقليدية هو من الوسائل العلاجية العادية التي لا يرى المرضى بالسكري في المغرب مثلا أي تناقض بين اللجوء إليها وبين اللجوء إلى الطب العصري في نفس الوقت.

وبالرغم من كل هذه الملاحظات فإن أي تمثل للمرض لا يكون نهائيا أو يقف عند نمط نموذجي محدد وبالخصوص لما يتعلق الأمر بالمرض المزمن. إن العديد من مرضى السكري غير الأنسوليني في المغرب كما اتضح لنا يحترمون في بداية إصابتهم العلاج الطبي بصورة دقيقة، ولكنهم ومع مرور الأيام، ولما يتسرب إليهم بعض الشك في النجاعة المطلقة للعلاج الطبي، ويتأكدون من أن مرضهم غير قابل للشفاء التام، فإن تمثلهم للمرض يتغير وفقا لقناعاتهم الجديدة، ويتغير معه اختيارهم العلاجي، فيتحولون تدريجيا من الاعتماد الكلي على الطب العصري وحده، إلى الاعتماد على الطب التقليدي الذي قد يتخذ عدة أشكال بحسب المستوى التعليمي والاجتماعي للمريض (إما الأعشاب الطبية وحدها، أو اللجوء إلى جانبها إلى بعض الوسائل الأخرى التي قد تكون الفقيه أو الأضرحة والأولياء …).

إن الوسط الذي يعيش فيه المريض يؤثر بدوره على تمثل المرض وتمثل العلاج. فالتمثلات السائدة في المحيط العائلي، أو في دائرة الأصدقاء، أو في مجال العمل، هي التي تساهم مساهمة فعالة وحاسمة في إدراك المريض لخصوصية مرضه ومصدريته، وللعلاج الأنجع الممكن. وإلى جانب التأثير الشخصي المباشر، لا ينبغي أن ننسى، خصوصا بالنسبة لحالة الأمراض المزمنة الدور الذي يلعبه المستوى التعليمي في الانضباط للعلاج وللحمية الغذائية، وبالخصوص ما يتيحه من اللجوء إلى وسائل التثقيف الذاتي واكتساب الخبرات والمعارف الأحدث عبر الكتب والمجلات المتخصصة، واللجوء إلى وسائل الاتصال الجديدة كالأنترنيت، والوسائل السمعية البصرية المختلفة الأخرى من راديو وتلفزيون وغيرهما. وبهذا الصدد ينبغي التذكير هنا بأن أول من يعلم المريض ويعطيه المعلومات الأساسية والجوهرية عن مرضه غالبا ما يكون هو الطبيب، لذلك فإن حصص التوعية الصحية التي يخصصها الأطباء لمرضى السكري مثلا تعبر ذات أهمية قصوى، لأن الطبيب لا يكتفي بإخبار المريض بنوعية مرضه وطرق علاجه ولكنه بالإضافة لذلك يمده بالدعم المعنوي الضروري لتجاوز مرحلة الصدمة، وإقناعه بأن المرض يمكن التغلب عليه إذا ما تم اتباع النصائح المقدمة للمريض بكل دقة. ومن ثم فالتمثل الأول والقاعدي للمرض يتشكل أول ما يتشكل في عيادة الطبيب، وفي نفس العيادة يمكن إعادة تشكيل ذلك التمثل لما يتغير نوع المرض أو يبلغ مرحلة أخرى من المراحل التي يمكن أن تكون إما أقل أو أكثر حدة.

3.2- مستويات تمثل حالة المرض: المحاولة التصنيفية لهرزليتش

من خلال نتائج دراستها عن الصحة أو المرض كمفهوم يعاش وينظر إليه من باب علاقته بالمجتمع، تلاحظ هيزليتش أنه بواسطة الصحة أو المرض يستطيع الإنسان أن يندمج أو لا يندمج في المجتمع. وهنا تلتقي مع منظور بارسونز الذي يرى الصحة كشرط أساسي لسير النسق الاجتماعي. والمرض هو شكل من أشكال الانحراف الراجع إلى ضغط المجتمع على الفرد. إذن من خلال نشاط الإنسان السوي أو عدم اشتغال المريض تتجلى العلاقة مع المجتمع. لم تدرس الباحثة السلوك الفعلي للفرد بل المعايير والتأويلات التي يستوجبها هذا السلوك. واستنتجت أننا غالبا ما نجد أنفسنا أمام ثلاثة أنواع من التمثلات للمرض:-

  • المرض كهدم La maladie destructrice

نجد تمثل المرض كهدم غالبا لدى الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم نشيطين وملتزمين وجادين في مشاركتهم في المجتمع. إن أصل المرض في نظرهم هو “عدم الاشتغال” الذي يحتوي على معاني متعددة “التخلي عن الدور المهني والعائلي”، “المشاكل المادية”، “الإقصاء من الجماعة”، كل هذا يعني عزل المريض:

يشعر الشخص المريض بعدم نشاطه، والتخلي عن دوره هو شيء مفروض عليه، كعنف موجه ضده. عدم القيام بنشاط معين يعني نوع من هدم لروابطه الاجتماعية مع الآخرين، الإقصاء والعزلة. وعلى العكس من هذا المنظور الذي يكرس عزلة المريض، نجد أن بعض المرضى يعبرون عن ارتباطهم الوثيق بمشاركتهم الاجتماعية، ويعطون أهمية لدورهم في المجتمع والمجهود الكبير الذي يتطلبه ذلك من قبيل الحفاظ على صحتهم والاهتمام بها. لأن القيام بمجهود مستمر من أجل الحفاظ على الصحة يعني نوعا من الاستمرارية في وظيفة المريض الاجتماعية وفي الحفاظ على هويته. الشخص يتماهى في دوره الاجتماعي والذي يتطلب الصحة ويرفض المرض.

عدم القيام بنشاطه يعني كذلك اتكاله على الآخرين والتبعية لهم، وغالبا ما يشعر المريض، في هذه الحالة، بالحرج عند طلب المساعدة وينتابه شعور بالقلق وعدم الجدوى من وجوده. يصبح المرض في منظور المريض، بالإضافة إلى أنه انحراف، هو النهاية والموت. النهاية والموت ليس كنتيجة للمرض بل موت في الحياة الاجتماعية اليومية كمريض. يعتبر المريض نفسه كأنه ميتا قبل مماته. ليس الموت هنا بالمعنى العضوي بل الموت الاجتماعي والسيكولوجي. والهدم هنا يهدد شخصية الإنسان وليس جسده. هذا بالإضافة إلى شعور المريض بالنقص أو أنه كعالة على المجتمع. ويشعر أن مكانته تراجعت وأصبح كالطفل.

علاقة المريض بالمرض قد تأخذ بعدا آخر: ماذا يمكن أن أفعل اتجاه المرض؟ يمكن أن يشكل المرض نوع من السلطة على المريض. عندما تطول مدة المرض وتظهر الأعراض الخارجية يفرض المرض نفسه على المريض وعلى أقرباءه، آنذاك يعترف الفرد بمرضه.

قد يرى البعض أن التخلي عن الأدوار الاجتماعية والالتزام بسلوك المريض هي أفضل طريقة للقضاء على المرض عضويا لكن البعض الآخر قد يرى أن الاقتصار على سلوك المريض لا يزيد المريض إلا ضعفا لهذا يجب أن يحتفظ بأنشطته الاجتماعية لأنها هي السبيل للحفاظ على حياته واندماجه الاجتماعي.

رفض العلاج واللجوء إلى الطبيب وكذلك رفض الاستفسار عن حالته الصحية، قد يرجع إلى رفض الاعتراف بالمرض. لكن هذا الرفض قد يكون نسبي في بعض الحالات: رفض الطقوس المرتبطة بالمرض ورفض الأعراض أو إخفاءها، يقوم المريض في هذه الحالة بدوره كمريض في الخفاء والتكتم. لكن عندما يطول المرض ويستقر، يهزم المريض ويصبح مسالما اتجاه المرض لا قوة ولا حول له. آنذاك يعي المريض عزلته ونهايته. الاستسلام للمرض يأخذ الغلبة على الرفض. الاستسلام يعني أن الفرد يفقد الأمل في الحل الذاتي، ويصبح العلاج شأن الآخرين، كالأقارب والطبيب.

  1. المرض كتحرر: La maladie libératrice

يعتبر بعض المرضى المرض “كتحرر”. كل شيء يبدأ بتخلي المريض عن نشاطه اليومي كما هو الشأن بالنسبة للمرض كهدم. لكن في حالة المرض كتحرر يكون هناك إحساس لدى المريض بالتخفيف من عبأ العمل والتخلص من الوظائف التي يقوم بها يوميا. التخلي عن واجباته ومسئولياته الاجتماعية يتيح له مزيدا من الراحة. تارة يشعر المريض أن الوقت الذي يقضيه في حالة مرض كقطيعة ولو مؤقتة مع أتعاب الحياة اليومية وأن المرض يعطي الوقت للمريض. وتارة أخرى يرى المريض هذا الوقت كتجربة استثنائية وغير عادية.

في بحثها حول هذه الفئة من المرضى استنتجت هيزري وجود منظورين للمرض كتحرر:

  1. المرض هو نوع من القطيعة مع الواجبات الاجتماعية ونمط العيش اليومي الممل، ويتيح للمريض نوعا من الراحة. الاستفادة من زمن المرض هي تجربة استثنائية نظرا لندرته وقلته. هذا التصور ينطبق خاصة على الأمراض الحادة، الغير مؤلمة والمحدودة في الزمن والتي هي لحظة تأمل وراحة في حياة الفرد.
  2. التصور الثاني للمرض هو تصور أكثر درامية. المرض يشكل ظاهرة استثنائية نظرا لطبيعته ومعانيه العميقة والمؤثرة التي تشمل المرض كشيء خطير يهدد حياة الأنسان، الموت والعذاب. يبتدئ مفهوم المرض كتحرر ومفهوم المرض كهدم من نقطة انطلاق واحدة وهي تخلى المرض عن وظائفه الاجتماعية وعزلته عن وسطه مع تصور المرض كتحرر، عزلة المريض ترى ليس بمنظور سلبي أو “كهدم لشخصية المريض” بل كتحرر أو كتجربة غنية للشخص. يشكل المرض للمريض فرصة ليستعيد حيويته وحريته. يتجلى هذا الإحساس بالحرية على ثلاثة مستويات:
  • بتخليه عن واجباته الاجتماعية يجد المريض الفرصة للقيام بأنشطة ثقافية.
  • يعتبر المريض العزلة كتجربة إيجابية.
  • عزلة المريض تعطيه نوعا من السلطة وامتيازات متعددة: يمكن أن يستغل وقته كما يريد وأن يكون أكثر تأثيرا على ذاته وعلى محيطه. كما يكون مقبولا من الآخرين نظرا للحنان وشفقة أهله ومحيطه.

قد يعتبر بعض المرضى أن الحياة الجماعية ليست هي الحياة الحقيقية نظرا لأنها لا تلبي حاجيات ومتطلبات الإنسان. المرض يصبح كتجربة غنية للفرد على عكس التصور السائد مع الفئة الأولى (المرض كهدم) التي تعتبر المرض كانحراف اجتماعي.

انطلاقا من هذه النتائج يمكن وصف شخصية المريض في ثلاثة اتجاهات:

  • المرض هو تحرر لأن المريض يتحرر من واجباته الاجتماعية. المريض يعيد اكتشاف ذاته، بفضل العزلة يمكن أن يصل إلى “حقيقته كإنسان”. المرض هو إذن تجربة تساعد على اكتشاف الذات.
  • المرض قد يساعد على تغيير شخصية المريض في اتجاه إيجابي على عكس التصور السائد مع “المرض كهدم”. يعي ويعرف المريض ذاته أفضل. يصبح المريض هنا هو النموذج المثالي، ليس المثالي بمعنى الإنسان النشيط بل الإنسان المتأمل المفكر. تجربة المرض ذات صبغة تكوينية للفرد راجعة للإحساس بالألم والخوف من الموت. هذا يؤدي إلى التأمل والتفكير الذاتي وإلى معرفة أفضل لحياة الفرد ولذاته. معرفته بذاته قد تساعده على الانفتاح أكثر على الآخرين.
  •                   للمريض شخصية استثنائية تنتج عن التجربة الاستثنائية للمرض. تجربة استثنائية لأن المرض يغذي القدرة السيكولوجية للفرد. المريض في هذه الحالة لا يقبل فقط المرض بل يتمناه في بعض الأحيان. والأهم، هنا، ليس هو العلاج بل التحرر الذي يؤدي إليه المرض. لهذا لا غرابة في أن بعض الأشخاص يتمارضون أو يستكينون للمرض évasion dans la maladie.
  •  المرض كمهنة la maladie comme métier

ينظر للمرض كمهنة لا بالمعنى اللغوي للكلمة ولكن بالمعنى المجازي: وظيفة المريض هي مقاومة المرض، وظيفة لديها خصائص المهنة، نتعلمها ونستعد لها. يجب التأكيد على طابعها الفعلي والعملي: يفرض المرض على المريض الالتزام بسلوك يرجعه إلى سلامته الجسدية والمعنوية. لهذا نتكلم دائما عن الجهد الذي يبدله من أجل الشفاء. أو نتكلم عن العرض كحالة تفرض علينا عدم الاشتغال وبالتالي تجبرنا على الذهاب للطبيب وإتباع العلاج. لهذا نركز على الجهد الفعلي للمريض.

إذا كان اعتبار عدم نشاط المريض كشيء محرج من الناحية المهنية والعائلية فله رغم ذلك وظيفة إيجابية من حيث يخلص المريض من أعباء الحياة اليومية ليركز بكل ما أوتي من قوة، على مقاومة المرض. ففقدان الدور الاجتماعي لا يترك فراغا. يعتبر المريض بالسرطان، الذي رجع إلى الحياة العادية، أن مقاومة المريض للمرض كمهنة الإنسان العادي.

يكتسي منظور المرض  مهنة عنصران يشكلان القاعدة التي يتم على أساسها مقاومة المرض:

  1. خوف المريض من المرض لا يعني أنه يرفضه بل لا يمكن إلا الاعتراف بوجوده.
  2. رغم أن المريض مجبر على قبول المرض، فإن له سلطة على المرض. سلطة ذات مستويات متعددة تبدأ من تحمل المرض من أجل تجاوز الألم: بعض المرضى يتكلمون عن التعايش مع المرض ومع إكراهاته. مقاومة المريض هي نوع من المساهمة (السيكولوجية) في العلاج. التعبير “ستتحسن صحتي” تتكرر في المقابلات مع المرضى وهو تعبير يبرهن على المساهمة المريض في العلاج. رأينا كيف أن رفض المرض يمكن أن يساهم في القضاء عليه (المرض كهدم) أو كيف أن الحنين للمرض يسهل رجوع المرض (المرض كتحرر). في حالة المرض – مهنة نقبل وجود المرض بدون الرغبة فيه والعوامل السيكولوجية تلعب دورا هاما في مقاومته وفي العلاج.

مع مفهوم المرض  مهنة نعطي أهمية للحالات التي يمر بها المريض ونعطي منظورا خاصا للصحة والمرض:

مع هذا المفهوم تكتمل صورة المرض كظاهرة عضوية. الألم، التعب، الحرارة، تشكل صورة عن المرض والأعراض هي التي تعرفه. في المنظور الأول (المرض كهدم) التصور السائد عن المرض هو فقدان الدور الاجتماعي، رفض معرفة الحالة البيولوجية العضوية. على العكس المنظور الأخير يبرز أهمية النشاط: مقاومة المرض تفترض معرفة أفضل بحالة المرض العضوية والإصابة ينظر إليها من جانبها الجسدي، منظور لا يعتمد فقط على معنويات المريض أو سيكولوجيته بل كذلك على “الرصيد الصحي” أو العضوي الذي يمتلكه.

يعطي مفهوم المرض كمهنة أهمية كبيرة لسلوك المريض واللجوء إلى الطبيب الذي له ثلاثة أبعاد الفحص، العلاج والوقاية والتي تحدد دور المريض. هذه الأدوار تتكامل مع المقاومة الشخصية والسيكولوجية للمريض: بفضل معنويات المريض ورغبته في العلاج، أداء الطبيب يكون مجديا. وعلاقة المريض بالطبيب تكون مبنية على التعاون والتبادل حتى أن دور المريض قد يضاهي في بعض الحالات نشاط الطبيب. يرفض المريض الخضوع والاستسلام للطبيب ويحبذ علاقة أكثر مساواة. تبادل المعلومات حول المرض هو شرط من شروط ارتفاع معنويات المريض ومقاومته للمرض وهو شيء يمكنه أيضا من أن يكون في نفس الموقع الذي يوجد فيه الطبيب.

صورة المريض ترتكز على النشاط والمشاركة في حالة المرض، وتفقد طابعها الدرامي. هوية المريض، وخاصية المرض والصحة كشيئين يؤديان إلى إدماج الفرد هي السمات التي يرتكز علها تصور المرض كمهنة“:

  • الحفاظ على القيم الاجتماعية المرتبطة بالصحة رغم أن الشخص مريضا: النشاط، القوة، الرغبة سمات تحدد معنى المريض والمرض كما تحدد معنى الصحة والإنسان السوي.
  • المرض تجربة نتعلم من خلالها المقاومة، ونتعلم أن نكون أقوياء وهي سمات تستعملها عندما نكون في أتم الصحة والعافية.
  • الشفاء هو النهاية العادية للمرض: المرض ما هو إلا مرحلة من المراحل التي تدفع المريض إلى الاشتغال بالشفاء. والوقت الذي يقضيه المريض في العلاج ما هو إلا وقت يمكن إدماجه في ”الوقت” المخصص للصحة.
  • في حالة الأمراض المزمنة، التعايش مع المرض ممكن. الشخص المريض يخلق نمط عيش جديد مع بعض الإكراهات وبعض الامتيازات.
  • سلوك المريض هو سيرورة ليس فقط في مواجهة الإصابة العضوية بل لتأكيد استمرارية الاندماج في المجتمع والانتماء إليه.

المراجع

  1. الوحيشي أحمد بيري وعبد السلام بشير الدويبي: “مقدمة في علم الاجتماع الطبي”، دار الجماهيرية للنشر، بنغازي، ليبيا، 1989 ص 65.

Retel-Laurentain A., (coordinatrice). Etiologie et perception de la maladie dans les sociétés modernes et traditionnelles! Paris, Ed. l’Harmattan, 1987, 494 pages.

Benoist J., et al… Anthropologie, santé, maladie, autour d’études de cas: AMADES , Toulouse , 1994, 142 pages.

Herzlich C., santé et maladie, Paris, Mouton, 1969.

Aballéa F. « besoin de santé et classes sociales » in: Recherche Sociale, N° 81, janvier 1982, 80p

Herzlich C., Sociologie de la maladie et de la santé,

Parsons T., Eléments pour une sociologie de l’action, Pris, Plon, 1955

Gagnon E., « L’avènement médical du sujet », in: Sciences sociales et santé, Vol. 16, N° 1, Mars, 1998,

Drulhe M., « comment mesurer la santé » in: Revue française de sociologie,

Friedson E., Profession of médecine: a sociology of applied knowledge, New York, 1970.

Baszanger I.; «Les maladies chroniques et leur ordre négocié»; Revue Française de Sociologie, XXVII, 1986.

Augé M., Herzlich C., Le sens du mal , Paris, Ed. Des Archives contemporaines, 1991, Cf. Particulièrement dans cet ouvrage l’article de Janine Pierret: « les significations sociales de la santé ». pp.217-256.

Ladrière J. « Le concept de représentation sociale », Encyclopédie Universalis, 1996, p. 823.

Verges P.:«L’analyse des représentations sociales par questionnaires », In: Revue Française de Sociologie, 42-3, 2001, p. 536.

Durkheim E.: « Représentations individuelles et représentations collectives »,Revue de métaphysique et de morale, Tome IV, Mai 1898 (Texte réédité dans Sociologie et philosophie, Paris, Puf, 1967; pp. 34-36).

Serge Moscovici: La psychanalyse, son image et son public, Paris,Puf, 1976, pp. 56-57.

Benoît J.; «Singularités du pluriel », article dans: Soigner au pluriel, ouvrage collectif, sous la direction de J. Benoît, p.

Fassin D., Pouvoir et maladie en Afrique-, Ed. F.U.F, Paris, 1992, p. 118.

Radi S.: « Les maux entre Dieu,les génies et les hommes », article dans l’ouvrage collectif: Soigner au pluriel, Sous la dir. Jean Benoît.


[1] هذا المقال جزء من القسم النظري من دراستنا حول “الثقافة والمرض، حالة مرضى السكري بالمغرب” والتي أنجزت بدعم من ” برنامج منح الشرق الأوسط” سنة 2003

[2] Anthropologie, santé, maladie, autour d’études de cas: AMADES , Jean Benoist, et al… Toulouse , 1994, 142 pages. Cf également: Etiologie et perception de la maladie dans les sociétés modernes et traditionnelles! Anne Retel-Laurentain,coordinatrice. Paris, Ed. l’Harmattan, 1987,494 pages.

[3] C. Herzlich, santé et malée, Paris, Mouton, 1969, P. 15-17.

[4] in: Recherche Sociale, N° 81 , janvier 1982, 80p. François Aballéa: «besoin de santé et classes sociales »

[5] C. Herzlich, Sociologie de la maladie et de la santé , op. Cit. P. 68; cf également: F. Aballéa, op cit, PP 59-71.

[6] أوضح تالكوت بارسونز نظرية “المرض كانحراف” في كتابه المترجم إلى الفرنسية تحت عنوان:

– Eléments pour une sociologie de l’action, Pris, Plon, 1955

[7] لقد طور عالم الاجتماع الأمريكي تالكوت بارسونز نظرة علم الاجتماع الوظيفي إلى المرض كانحراف، وذلك عند مناقشته لمفهوم دور المرض في كتابه النظام الاجتماعي ((The social system المنشور سنة 1951. وللمزيد يمكن الرجوع إلى المرجعين التاليين:

  1. الوحيشي أحمد بيري وعبد السلام بشير الدويبي: “مقدمة في علم الاجتماع الطبي”، دار الجماهيرية للنشر، بنغازي، ليبيا، 1989 ص. 65.
  2.  Milbank Memorial Fund Talcott Parsons: « The Sick Role and the Role of Physican Reconsiderd Quartely / Health and Society 1975, Vol LIII, N° 3.

[8]F. Aballéa. Op. Cit. p 42

[9] E. Gagnon, «L’avènement médical du sujet», in: Sciences sociales et santé, Vol. 16, N° 1, Mars, 1998, p 66.

[10] Ibidem.

[11] M. Drulhe, « comment mesurer la santé » in: Revue française de ,sociologie,

[12] E. Friedson, Profession of médecine: a sociotogie of apptied knowledge, New York, 1970

[13] c. Herzlich, op, cit, p, 195.

[14] M. Drulhe; op cit.

[15] I. Baszanger; « Les maladies chroniques et leur ordre négocié »; Revue Française de Sociologie, XXVII, 1986.

[16] Ibid.

[17] Ibid.

[18] M. Augé, C. Herzlich , Le sens du mal , Paris, Ed. Des Archives contemporaines, 1991, Cf. Particulièrement dans cet ouvrage l’article de Janine Pierret: «les significations sociales de la santé ». pp. 217- 256.

[19] C. Herzlich, Op. Civ, P.

[20] Ibid, P. 202

[21] J. Ladrière « Le concept de représentation sociale », Encyclopédie Universalis, 1996, P. 823.

[22] P. Verges: « L’analyse des représentations sociales par questionnaires », In: Revue Française de Sociologie, 42-3, 2001, p. 536.

[23] C. Herzlich, « la maladie comme signifiant social », op; cit, P. 203.

[24] E. Durkheim: « Représentations individuelles et représentations collectives »,Revue de métaphysique et de morale. Tome IV, Mai 1898 (Texte réédité dans Sociologie et philosophie, Paris, Puf, 1967; PP. 34-36).

[25] Serge Moscovici: La psychanalyse, son image et son public, Paris,Puf, 1976, pp. 56-57.

[26] M. Augé et C. Herzlich, le sens du mal, (L’introduction), op. Cit. P. 26.

[27] M. Drulhe, op cit.

[28] J. Benoît; «Singularités du pluriel », article dans: Soigner au pluriel, ouvrage collectif, sous la direction de J. Benoît, P.

[29] D. Fassin, Pouvoir et maladie en Afrique; Ed. F. U. F, Paris, 1992, P 118.

[30] S. Radi: « Les maux entre Dieu, les génies et les hommes », article dans l’ouvrage collectif: Soigner au pluriel, Sous la dir. Jean Benoît, op. Cit. P.171.

الأكثر رواجًا