حسن طارق

أستاذ القانون العام

تمة حاجة إلى بحث التشابكات العلاقة بين التحولات السياسية التي يشهدها المغرب منذ عقدين، والمسارات المتعلقة بهندسة وصياغة وتقييم السياسات العمومية، وضمن هذا الأفق من الممكن طرح بعض الأسئلة حول أثر التحول والانفتاح السياسي على مجال السياسات العمومية، انطلاقا من رصد مدى “التسييس المتزايد” للسياسات العمومية عن طريق الوقوف عن افتراض تحقق مسلسل لنزع الطابع التقنقراطي عن هذه السياسات، سواء عبر التساؤل عن مدى توسيع مجال الاهتمام البرلماني بها، وإغناء فضاء النقاشات العمومية حولها وتقوية ثقافة تقييمها وتتبعها؟

المؤكد أن هذه الإشكاليات تتجاوز بكثير إمكانيات وحدود هذه المساهمة، وتحتاج إلى مشاريع بحث أكثر عمقا وأكثر امبريقية، لذلك فالهدف هنا يقتصر على طرح بعض الملاحظات الأولية حول حدود السياسة والإدارة في مجال السياسات العمومية داخل الحالة المغربية. وهذا ما يتطلب من جهة النظر في “هشاشة” فضاء التمثيل ودوائر السياسة في علاقتها بالسياسات العمومية ومن جهة أخرى ملاحظة تجدر تقاليد التدبير التقنقراطي كأحد أدوات النظام السياسي والإداري وقبل ذلك لابد من الوقوف سريعا على أبعاد العلاقة: سياسات عمومية /سياسة (politics/policies).

أولا: السياسات العمومية داخل التباسات الإدارة، السياسة والديمقراطية:

ركزت الأدبيات الأولى لتحليل السياسات العمومية، منذ بدايتها على العلاقة الوطيدة بين السياسات العمومية وبين الديمقراطية، فمهما كان مستوى هذه السياسات، فان بناء تصورها وتنفيذها يتم عن طريق تدخل مجموعة من الفاعلين السياسيين والإداريين المكلفين بمهام المصلحة العليا، والمعبرين عن مسلسل ديمقراطي، إن دينامية صياغة هذه السياسات مفتوحة على العديد من أشكال المشاركة الموجهة لإدماج التعبيرات المختلفة لمصالح اجتماعية متعددة، فالسياسات العمومية في كل مراحل تبلورها تبقى خاضعة لتدافع سياسي يحاول إدماج الانتظارات المتناقضة داخل صيرورة تقديم الجواب على المشاكل العمومية، على أن هذه الخطاطة تختلف طبقا حسب الأزمنة والدول وبالنظر كذلك لطبيعة الأنظمة السياسية([1]) ومستوى دمقرطتها، فالسياسات العمومية تعد مدخلا رئيسيا لفهم “الديمقراطية في حالة فعل” ([2]).

إن الاختلاف بين الأنظمة السياسية يلقي كذلك باضواءه على مدى مساهمة الجهاز الإداري في صياغة السياسات العمومية، فإذا كان من الطبيعي أن يشارك هذا الجهاز في هذه الصياغة، فإن دوره ووزن مشاركته يختلف من نظام سياسي إلى آخر، فالدور الذي يلعبه – عادة – في الدول النامية أكبر نسبيا من دوره في الدول المتقدمة. ([3])

ولأن هذه العلاقة بين الإداري والسياسي، كإشكالية سابقة بكثير عن لحظة بروز مقتربات تحليل السياسات العمومية، فقد كانت موضوعا مغريا للعديد من المباحث الفلسفية التي اشتغلت على حضور العلم والتقنية كرهان للسلطة (أعمال هابرماس مثلا، خاصة دراسة حول التقنية كإيديولوجيا). كما أن ظواهر البيروقراطية وعقلانية الدولة والتقنقراطية، قد غدت إشكاليات كلاسيكية بالنسبة لعلم الاجتماع السياسي([4])، من خلال بحث تحول السلطة من بين أيدي السياسيين إلى فضاءات كبار الموظفين والكفاءات التقنقراطية التي تستعمل كفاءاتها التقنية لممارسة السلطة السياسية والتأثير على القرار السياسي، حيث غالبا ما تبدو كلمة “التقنقراط” قدحية في أفواه رجال السياسة ([5]).

لقد وقفت العديد من الدراسات (أعمال Crozier مثلا) على أن التأثير المتزايد لرجال الإدارة وللأجهزة الإدارية على المجال السياسي، قد يؤدي إلى تحويل النظام الإداري إلى نظام للسلطة قائم بذاته، سلطة تستند أساسا على الكفاءة والخبرة والتخصص في إدارة الشؤون العامة، حيث تمنح الاحترافية للبيروقراطية شرعية خاصة تعتمد على امتلاك المعرفة وتتنمى بتطور وتعقد المشاكل وتشابكها ([6]).

بالنسبة للبعض فإن الجذور التاريخية لإشكالية الإداري والسياسي، ترجع إلى ديناميتين سياسيتين عرفتهما الدولة الحديثة، الدينامية الأولى ترتبط بالدولة كجهاز إداري بيروقراطي تبلور نتيجة مسلسل العقلنة (أعمال weber) أما الدينامية الثانية فترتبط بالدولة كشكل سياسي: حكومة تمثيلية، تبعية الإدارة لتوجهات الإدارة العامة ([7])، إنها الدولة كتبلور لمسلسل الدمقرطة.

ولا شك أن عودة النقاش حول هذه الإشكالية، يتزامن كذلك مع تواثر الحديث عن “نهاية السياسة ” وعن العجز العمومي (l’impuissance publique)، خاصة مع أثر عولمة الأسواق وهيمنة الجوانب المالية العالمية، على الاقتصاديات ومن تم على القرار السياسي، داخل عصر تسوده الخبرة التقنقراطية المستغنية عن السياسة، من خلال نزع الصفة السياسية عن التسيير تحث تأثير حكم الاقتصاد بحيث يتحدث بعض المفكرين عن انبعاث العلموية السابقة في لباس نزعة تقنوية معاصرة، حتى أصبح ميدان السياسة قد اكتسح من طرف خطاب الخبير والتقنية ولاهوت التسيير، والحاجات الاقتصادية الملحة والتواصل([8]).

إن مجال السياسات العامة ليس بعيدا عن إشكاليات التوتر بين الإداري والسياسي، ولا عن إشكاليات ضمور النظام التمثيلي الديمقراطي، فرغم أن فاعلي السياسات العمومية ليسوا جميعا موظفو إدارة، فان الجهاز الإداري يظل الإطار الرئيسي للمساهمة في صياغة هذه السياسات ([9]).

فعندما نستعيد خطاطة (p. Muller) حول الدوائر الأربعة لصناعة السياسات العمومية: دائرة هرم الدولة، القيادة السياسية والتنفيذية، دائرة الإدارات القطاعية المتدخلة في مجالات اختصاصها، دائرة الفاعلين خارج الدولة: نقابات، هيئات مهنية، رجال أعمال.. ثم الدائرة الرابعة المتضمنة للهيئات السياسية، من مجالس نيابية ومجالس شيوخ.. وللهيئات القضائية من مجالس دستورية ومجالس للدولة ومجالس للحسابات([10]) فان الخلاصة الأساسية تتجلى بكل وضوح في كون الفاعل السياسي ليس بالضرورة محددا حتميا للسياسة العامة، خاصة عندما نقف على الانفصام بين فضاء التمثيل السياسي من جهة وفضاء السياسات العمومية من جهة أخرى. حيث يتحكم في الفضاء الثاني منطق الشبكات وحيث الوظائف الحكومية تزاول من طرف فاعلين غير منتخبين (وكالات، شبكات خبراء، مجموعات مصالح..)، وحتى عندما تزاول من طرف المنتخبين فإنهم يبدون فاقدين لأية قدرة على الوساطة بين وظائف إنتاج التوفقات الاجتماعية والترابية وبين وظائف إنتاج السياسات العمومية، وهو ما يطرح إشكالية المراقبة السياسية لسياسات الضبط الاقتصادي والاجتماعي ([11]).

إننا تقريبا أمام نموذجين لبناء السياسات العمومية: ما يسميه (J. Leca) بعدم التطابق بين “السياسية الانتخابية” المعبرة عن التنافس السياسي للمنتخبين وأعضاء الحكومة، حيث الناخبين هم الذين يختارون بين مجموعة “مشاريع”، يتعين على الحكومات تطبيقها في صورة سياسات عامة. وبين “سياسة المشاكل” حيث المنتخبين وأعضاء الحكومة ليسوا سوى مجرد فاعل ضمن آخرين، مما يجعل السياسات العمومية خاضعة لعديد من الأنظمة الاجتماعية المحلية ولمجموعة من المفاوضات والتقويمات المتبادلة والتراضيات اليومية البعيدة عن المنطق الانتخابي ([12]).

في هذا الاتجاه، يجب القول بأن الباحثين لم يشتغلوا فقط على تأثير تحولات العالم السياسي وفضاءات التمثيل على السياسات العمومية، بل كذلك وقفوا علي الاتجاه المعاكس للمعادلة، حيث رصدوا أثر تحولات الفعل العمومي والسياسات العامة على ممارسة السياسة والفعل السياسي، من خلال تحول إشكال المشروعية السياسية إذ أن حيازة الولاية الانتخابية لم تعد الشكل الوحيد للمشروعية، بل أضيفت إليها مشروعية ذات طبيعة تدبيرية، تم من خلال تحول قواعد الفعل السياسي وخطاب الفاعلين الذين أصبحوا مطالبين بخطاب مزدوج: خطاب ذي طبيعة حزبية صدامية تقاطبية من جهة وخطاب حول السياسات العمومية مبني على محدودية الخيارات السياسية وضخامة الإكراهات التقنية والاقتصادية والتدبيرية من جهة أخرى ([13]) وهو تحول سيؤدي في النهاية إلى أزمة الوظيفة المنبرية للحياة السياسية ([14]).

رغم كل هذه الإشارات حول توجهات الأبحاث المشتغلة عل علاقة “السياسة” بالسياسات العمومية، فإن بعض الدراسات التي انطلقت من حالات امبريقية (في تجارب أوربية) قد وصلت إلى نتائج لا تذهب في اتجاه التسليم بالتراجع القدري للسياسة في تحديد توجهات الفعل العمومي، هذه الدراسات اعتبرت أن السياسات العمومية عرفت في السنوات الأخيرة تحولات عميقة مرتبطة بمتغيرين، الأول يتعلق بالانفتاح الكبير الذي عرفه مسلسل صياغة السياسات أمام العموم، والثاني يرتبط بالتوجه “الترابي” الذي أصبح حاضرا بقوة داخل الأجيال الجديدة للسياسات، وهذا ما جعل الهيمنة التقنقراطية على السياسات العمومية، من خلال التحكم في الخبرة وفي مسلسل التنفيذ بالنسبة لهذه الأبحاث تصبح جزءا من الماضي([15]).

ثانيا: حضور السياسات العمومية داخل الفضاء العمومي المغربي:

من البديهي أن البحث عن حدود السياسة والإدارة، في صياغة السياسات، يرتبط أساسا بالتساؤل حول مدى حضور السياسات كإحدى رهانات الفضاء العمومي: داخل البرلمان، لدى الأحزاب السياسية، في المحطات الانتخابية، وعموما في كل دوائر الحوار العمومي…

على المستوى البرلمان، فإن خلاصات الأبحاث في هذا الموضوع، تتقاطع بشكل كبير، في التأكيد على قصور التأثير البرلماني على بنية السياسات([16]) وفي تسجيل غياب منهجية برلمانية في مجال إعداد السياسات([17]).

أسباب ذلك، متعددة، حيث المحددات المؤسساتية لا تكفي لوحدها لتفسير قصور أو ضعف مردودية حصيلة العمل البرلماني، فالقصور الكمي والنوعي، لا ينحصر فقط فيما هو تقني أو معياري يتعلق بمختلف الإجراءات والمساطر الشكلية أو الموضوعية التي تقيد اختصاصات البرلمان سواء من حيث المبادرة أو المناقشة، بل يرجع كذلك إلى الموارد البشرية السياسية التي تبقى لها صلاحية حسن أو سوء تدبير واستثمار مختلف الصلاحيات المخولة لها ([18]).

إن إشكالية الموارد، ترتبط كذلك بضعف طواقم الخبراء الموضوعة رهن إشارة العمل البرلماني، (معدل موظف واحد لكل 12 برلماني)، في وقت يقر الجميع أن المؤسسات التشريعية لا تتطور في علاقة بأدوارها، إلا بناء على المعرفة التي توفرها لها الخبرة في مجال السياسات العامة ([19]).

وإذا كانت لحظة مناقشة الميزانية، نظريا، تشكل إحدى أقوى اللحظات البرلمانية المرتبطة بالحوار حول السياسات، حيث أن الميزانية في نهاية المطاف ليست سوى الترجمة المالية لتوجهات السياسات العمومية، فإن الشكل الذي تقدم به الميزانية العامة أمام البرلمان يخضع مؤسسيا لمقاربة عمودية، حيث تظهر الاعتمادات حسب الأبواب وحسب الواردات، مما يصعب بالنسبة حتى للمختص تحديد المبالغ الإجمالية الموجهة لكل برنامج ولكل سياسة عمومية، بشكل أفقي بغض النظر عن المقاربة القطاعية ([20]).

إن إعداد وتقديم الميزانية تهيمن عليه المواصفات التقنية علي حساب إمكانيات النقاش والمداولة السياسية ([21]) فيما النقاش حول التصريح الحكومي يهيمن عليه تقاطب الأغلبية / المعارضة، وهذا ما لا يعكس دائما تقاطبا حول السياسات العمومية، بشكل واضح. أما تقنية الأسئلة كآلية للرقابة فتبدو أسيرة للهواجس المحلية، وبعيد على أن تشكل آلية مندمجة في سياق تصور سياسي لتقييم ومراقبة ومتابعة السياسات العمومية.

كل هذه العناصر تحيل على حدود استثمار البرلمان كفضاء عمومي([22]) للتواصل السياسي عبر مناقشة السياسات العمومية([23]). فيما وانطلاقا من أعمال (هابرماس) خلص بعض الباحثين إلى تعذر حتى إمكانية اعتبار البرلمان كفضاء لتحقق المجال العمومي النقدي ([24]).

عموما إن النقاش حول السياسات العمومية، لا يشكل إحدى رهانات الفاعلين في العمل البرلماني، أكثر من ذلك أن لحظة مثل مناسبة الانتخابات التشريعية، لا تبدو محملة هي الأخرى بهاجس هذا النقاش، إذ لم تشكل مثلا تشريعات 2007، لحظة للتناظر بين الخطابات السياسية أو لنقل بالتحديد أنها لم تشكل لحظة لبروز خطابات سياسية تحمل مرجعيات واضحة حول السياسات العمومية المقترح تفعيلها. كل هذا تم تعويضه بخطابات تقنوية أو خطابات أخلاقية ([25]).

لقد “اكتشفت” الأحزاب السياسية المغربية، خلال هذه الاستحقاقات مقولة “البرنامج الانتخابي”، وعوض أن يكون هذا الأخير معبرا عن التمفصل بين الهوية السياسية والإيديولوجية للحزب وبين السياسات العمومية التي يقترح: تحول هذا الأخير، تحث تأثير استبطان الحزب المغربي للإيديولوجيا التقنقراطية، إلى حزمة أرقام وإجراءات وأجوبة تقنية جزئية ([26])، داخل انتخابات عرفت تفويت النقاش والتقاطب العمومي حول الأفكار والسياسات إلى مجرد صراعات محلية بين الأعيان والوجهاء وأصحاب النفوذ.

توضح متابعة الحياة السياسية والحزبية المغربية، أن جوهر الحوار السياسي العمومي يرتبط بالسياسة كمواقف اتجاه الدولة، كمواقف ظرفية، كردود فعل يومية، ولا يرتبط بالسياسة: كسياسات عمومية وكأجوبة علي أسئلة المجتمع.

فالقضايا الاقتصادية والاجتماعية تبدو غالبا مؤجلة أمام الأولوية شبه المطلقة للقضايا السياسية (المتعلقة بالصراع أو بالتوافق مع السلطة) ([27]).

الترجمة التنظيمية لهذا المعطى، تتجلى في غياب أي إشارة إلى هيئة أو لجنة تهتم بالسياسات العمومية، داخل الأنظمة الداخلية لغالبية الأحزاب المغربية. وإذا كان البعض قد اعتبر أنه من الآثار السياسية المحتملة لدخول زمن “التناوب”، هو عودة النقاش حول السياسات كأحد رهانات الحقل السياسي المغربي، فإن هذا التحليل لم يصمد أمام إستراتيجية الفاعلين الحزبيين المغاربة الذين يتعاملون مع المشاركة الحكومية، أساسا كمجال لتدبير العلاقة مع الدولة، وليست مجال لإنتاج السياسات.

إن الرواسب التاريخية، داخل الأحزاب، عملت على تكييف ردود فعلها بشكل يجعل من هاجسها الأساسي هو التفكير في المسألة السياسية (مسألة الدولة، السلطة، الدستور…). ولعل هذا يشكل جزء من الإرث الذي احتفظت به الأحزاب من مرحلة الصراع السياسي مع الدولة.

أخيرا فإن الضعف العام لحضور السياسات العمومية داخل فضاء الحوار، يعود كذلك بشكل من الأشكال إلى محدودية إسهام المجتمع المدني والجامعة ومراكز البحث في متابعة وتحليل وتقييم السياسات.

ثالثا: السياسات العمومية بين تجدر تقاليد التدبر التقنقراطي وآثار التحولات السياسية:

تاريخيا، اعتبر تشغيل “أسطورة التقنقراطية” خاصة في تأويلها المضاد للحزبية، أحد المكونات الأساسية لأدوات الضبط السلطوي للنظام السياسي المغربي ([28])، وإذا كانت التحولات التي عرفها هذا النظام في اتجاه انفتاح وليبرالية أكبر قد ساهمت في إنحضار المشروعية السياسية للصيغة التقنقراطية، فإنها لم تمنع من عودة هذه الصيغة في صورة السياسي/ الحزبي، حيث يبدو التقنقراطي هو من يوظف السياسي الحزبي وليس العكس. ([29]) وهو ما يجعل من الظاهرة التقنقراطية عموما معطى بنيويا داخل الحياة السياسية المغربية، المتأثرة بما يسميه الأستاذ عبد الله ساعف بالنمطية الإدارية (fonctionnarisation)، من خلال الحضور القوي للموظفين وسط المؤسسات وارتباط الشرائح الجديدة بالإدارة، وسيادة فكرة حول النظام، تتمثله كبناء تراتبي في قمته رئيس تراتبي (باطرون) يقوم بعملية التشجيع أو الزجر، وحضور مواصفات “الموظف السامي” كنمط أساسي للحياة السياسية.. وهذا ما أدى إلى الانتشار الحاسم لثقافة الدولة التي تعتبر عن نفسها بنزوعات لتحويل المواطنين المغاربة إلى جمهور من المواطنين الإداريين، لتوسيع دوائر الحياة الإدارية على حساب الحياة السياسية.([30])

لقد عمد بعض الباحثين إلى بناء نوع من التماهي بين الحضور الطاغي للموظفين وللإداريين داخل النسق السياسي الفرنسي وبين الحالة المغربية، غير أن إختلاف السياقين قد يجعل مضمون التجربة الفرنسية قائما على التسييس المتزايد للوظيفة العمومية، فيما مضمون التجربة المغربية قائما على “البرقرطة” الممتدة للتدبير السياسي. وذلك بالنظر إلى تشكل الجهاز الإداري داخل دينامية بناء دولتي يعتمد منطق الهيمنة، التي لا تسمح بأدنى إمكانيات الحياد الوظيفي للإدارة في العلاقة بين الدولة والمجتمع.

انه من الطبيعي أمام التراكمات التي أفرزتها الممارسة الإدارية / البيروقراطية في المغرب والتي أنتجت اعتقادا يتمثل في أن وضع أي سياسة فعالة يتم عبر إقصاء “السياسي”([31])، أن يتم تحويل طبيعة النقاش حول السياسات العمومية من المجال السياسي والقيمي إلى المجال التدبيري والتقني والإجرائي.

وهذا ما يجعل من القرار السياسي، عوض أن يكون نتيجة للتداول العمومي والسياسي، سجينا لخبرة أحادية “mono expertise” تحث ضغط دائم للاستعجال([32])، فالعديد من “المصلحين” يعتقدون مخطئين أن الإصلاح لا يحتاج إلى سياسة بل يذهبون إلى حد إقامة تعارض بين الإصلاح والسياسة، معتبرين أن للإصلاح طابعا تقنقراطيا محضا، وهو ما يكرس نزعة اللاتسييس السائدة والمكتسحة للفضاء المغربي([33]).

ظاهرة اللاتسييس، التي تأخذ أشكالا متعددة، ولا يمكن اختزالها فقط في الابتعاد عن العمل السياسي بشكل من الأشكال، بل إن من أصنافها النزوع إلى التعامل بمنظار تقني مع القضايا السياسية الكبرى ونزع الطابع السياسي عن مجال السياسات العمومية والميل إلى تقنقرطتها ([34]).

إن مظاهر هيمنة الإدارة والمنطق التقنقراطي على منطق السياسة في السياسات العمومية، يخترق كل مراحل هذه الأخيرة، من لحظة بناء المرجعيات إلى مرحلة الصياغة وصولا إلى زمن التقييم، دون الحديث طبعا عن مرحلة التنفيذ كلحظة إدارية تقنية بامتياز.

إن المرجعيات المتداولة في عديد من السياسات الاجتماعية والاقتصادية، تستلهم دون أدنى تحفظ المقولات المؤسسة للخطابات التقنية للمؤسسات المالية الدولية ولبعض مؤسسات منظومة الأمم المتحدة (حالة مفهوم الحكامة الجيدة مثلا) فيما نشهد عودة قوية للجوء لمكاتب الدراسات الأجنبية في صياغة سياسات أفقية ذات أثر كبير على القضايا الاقتصادية والاجتماعية سواء في صيغة مخططات أو برامج ذات مدى زمني متوسط، خارج أي اهتمام بخطاطة المنطق التمثيلي([35]) والتداول السياسي والبرلماني، خاصة مع تواتر جيل من المؤسسات والوكالات الموجودة أصلا خارج منطق المراقبة السياسية.

لحظة التقييم هي الأخرى تظل أسيرة لنفس المنطق التقني / إداري، وذلك من خلال غياب الجانب السياسي مجسدا في ضعف المؤسسة البرلمانية، فغياب قدرة إنتاج الخبرة المستقلة للسلطة التشريعية يجعلها في وضعية تبعية للإدارة([36]) وسجينة لمفارقة محورية: أن يكون البرلمان مرتبطا بالإدارة من أجل مراقبة هذه الإدارة نفسها، إذ غالبا ما تستند مثلا لجان التقصي على تقارير المفتشية العامة للمالية، حيث لا يستطيع البرلمان إنتاج قاعدة معلومات مستقلة عن ما تتداوله الإدارات.

من جهة أخرى لا يتوفر البرلمان المغربي، على آليات مؤسسية لتدبير الانفتاح على المواطنين وعلى المجتمع المدني في مناقشة السياسات العمومية والتداول حولها ([37]).

إن هيمنة الجوانب التقنية والإدارية يعني بالضرورة تهميشا لمبادئ المساءلة والمراقبة، فوراء صراع التقنقراطي والسياسي يكمن مستوى أخر من الصراع لا يحسم عادة إلا بتفضيلات قيمية: ما هي القيم التي يجب أن تحظى بالأولوية في صياغة وتنفيذ السياسات العمومية، النجاعة والفعالية أم المساءلة والمحاسبة؟([38]).

إذا كان من خلاصة ممكنة، لرصد مسار العلاقة بين السياسة والإدارة بالنسبة للسياسات العمومية، فهي محدودية أثر دينامية التحول السياسي الذي عرفته بلادنا علي أي “تسييس” متزايد لهذه السياسات، خاصة عندما ننطلق من الفرضية التي تربط بين التحولات الديمقراطية التي جرت في العديد من الأقطار وبين الدور الذي يلعبه إعادة تنشيط “السياسي” كمضاد للسلطوية ([39]).

إن تفسير هذه المحدودية، لا بد أن يضع في حسابه ما يمكن تسميته بالاستقلالية النسبية التي يتمتع بها مجال السياسات، قياسا مع المجال السياسي وتحولاته، لقد وقف “فليب برو” مثلا، على مفارقة الاستمرارية المفاجئة علي مستوى السياسات العامة القطاعية، بالرغم من التغييرات السياسية الجذرية. ([40])

إن السؤال المطروح هو هل من الممكن أن تنسحب هذه المفارقة التي تهم مضمون السياسات، على شكل هندستها وصياغتها كذلك؟

عندما نعود إلى السياقات السياسية، لمرحلة التحول الذي انطلق في بلادنا منذ تسعينات القرن الماضي، فبالتأكيد سنجد أن فكرة التحول لم تكن مؤسسة في العمق على مضمون مرتبط بتصور حديد للسياسات العمومية، بقدر ما كانت مبنية على تصور للسياسة ولعلاقات السلطة بالمعارضة، رغم أن الخطاب الذي مهد للانفتاح الليبرالي والسياسي (النسبي)، قد بنى بعض حججه على تقييم علني وعمومي، لمجمل السياسات المطبقة منذ الاستقلال (خطاب السكتة القلبية).

إن هذا التحول لم يمس في عمقه توزيع السلطة وطبيعة القرار السياسي، مما يجعل من “تواضع” المجال التمثيلي، معطا ثابتا كأحد الإكراهات المؤسسية أمام إعطاء النقاش حول السياسات، بعدا آخر أكثر تطورا.

فضلا عن ذلك فإن مرحلة هذا التحول، فد عرفت من جهة نوعا من إعادة تعريف للمؤسسة الملكية، كملكية تنفيذية فاعلة في مجال السياسات العمومية، ومن جهة أخرى تركيزا على منهجية “التوافق” كقاعدة لصياغة العديد من تلك السياسات، وهي منهجية بحكم طابعها الجماعي، كانت في الغالب تتم على حساب منطق المؤسسات، منطق الأغلبية / الأقلية.


[1] Olevier girand et Philippe worin (2008) « les politiques publiques : une pragmatique de la démocratie »

in Olivier girand et Philippe worin (dir) « politiques publiques et démocratie » paris, la découverte page 7.

[2] Ibid. page 8

[3] د. احمد مصطفى الحسين “مدحل إلى تحليل السياسات العامة ” المركز العالمي للدراسات السياسية. الأردن ط 1، 2002 صفحة 236.

[4]R .G Schwartzenber (1998) «sociologie politique» est martchrestien ,5éme édition page 293.

[5] Ibid. p 294.

[6] عبد الحفيظ ادمينو “نظام البيروقراطية الإدارية بالمغرب” أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، كلية الحقوق أكدال 2002- 2001

[7] Ali bouabid et Amina el messaoudi (2007) « technocratie versus démocratie » collection « les cahiers bleus »/FAB-FES N° 9 Avril 2007 page 7.

[8] اروبير رديكور “من السلطة إلى العنف افول السياسة ” ترجمة فؤاد مخوخ، مجلة فكر ونقد ع 56 فبراير 2004.

[9] Pierre Muller (1990) « les politiques publiques » que sais-je ? PUF 8éme édition page 38.

[10] Ibid. p 40.41

[11] Gilles massardier (2003) «politiques et action publiques» édition Dalloz Armand Colin, paris P263.

[12] Ibid. page 263

[13] Pierre muller (1990) « les politiques publiques » que sais-je ? PUF page 53

[14] Ibid. page 54.

[15] Gilles Mossardier « politiques et action publiques » édition Dalloz Armand Colin, paris, P 91 à 126.

[16] محمد الغالي ” محددات التدخل البرلماني في مجال السياسات العامة في المغرب (1984-2002) ” أطروحة لنيل الدكتوراه في الحقوق مراكش -2004/ 2003 صفحة 378.

[17] المرجع السابق صفحة 386

[18] المرجع السابق صفحة 7.

[19] جمعية الوسيط من اجل الديمقراطية وحقوق الإنسان ” تقرير حول المساءلة البرلمانية للشأن التعليمي” ماي 2009- صفحة 27.

[20] Ali bouabid /larabi jaidi / mohamed harakat «l’évaluation de l’action publique : pistes pour un débat» (FAB/ FES) 2004 page 38.

[21] Ibid. page 39

[22] انظر حول هذا المفهوم jean Philippe heurtin(1999) « l’espace public parlementaire , essai sur les raison du législateur » PUF paris.

[23] محمد الغالي، مرجع سابق صفحة 259.

[24] رشيد علمي الإدريسي، ندير منى ” هل البرلمان مجال عمومي” مقال في “التجربة البرلمانية السادسة 2002/97” مؤلف جماعي، تنسيق احمد المالكي مراكش 2006 صفحة 43-23

[25] حسن طارق “المجتمع المغربي وسؤال: المواطنة والديمقراطية والسياسة” منشورات فكر -2010 صفحة 172.

[26] المرجع السابق صفحة 172.

[27] المجلس الاقتصادي والاجتماعي: النموذج المغربي “مؤلف جماعي تحت إشراف حسن طارق، جمال حطابي، منشورات المجلة المغربية للسيارات العمومية 2010 صفحة 11.

[28] Ali bouabid – Amina messaoudi « technocratie versus démocratie ? » OP.Cit page 22.

[29] Idim page 22.

[30] عبد الله ساعف “النخب المغربية وإشكالية الإصلاح” في “التمثيلية، الوساطة، والمشاركة في النظام السياسي المغربي” كتاب تكريمي للأستاذ عبد الرحمان القادري تنسيق عبد الله ساعف. شعبة القانون العام اكدال الرباط 1997 صفحة 65.

[31] عبد الحفيظ ادمينو م س صفحة 16.

[32] Ali bouabid / larbi jaidi « étude sur le projet de création d’une structure d’analyse économique » ministre chargé des affaires générales rabat fév. 2002.

[33] عبد الله ساعف “رهانات التحول السياسي في المغرب” سلسلة نقد السياسة ط 2 منشورات دفاتير سياسية صفحة 42.

[34] عبد الله ساعف المرجع السابق صفحة 17.

[35] لنلاحظ أن مخطط من حجم “المخطط الأخضر” لم يكن له أي إثر داخل التصريح الحكومي الذي قدمه الوزير الأول عباس الفاسي بعد تعيين حكومته سنة 2007.

[36] Ali bouabid « l’évaluation de l’action…. » OP.Cit page 37.

[37] حسن طارق/ عبد الله معاشر “دليل التواصل بين البرلمانيين والمجتمع المدني” منشورات منتدى المواطنة 2007.

[38] نذير المومني “أعمال Habermas ومجال السياسات العمومية” مجلة أبحاث شتاء 2004 ع 56 صفحة 113.

[39] عبد الحافظ أدمينر، مرجع سابق صفحة 160.

[40] فيليب برو “علم الاجتماع السياسي” ترجمة محمد عرب صاصيلا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع – بيروت – 1998 – ط 1 – صفحة 505.

الأكثر رواجًا