إعداد

د. أحمد بن محمد بن عبدان الهنائي

المديرية العامة لتنمية الموارد البشرية

وزارة التعليم العالي

سلطنة عمان

أولاً: مفهوم تنمية الموارد البشرية في عمان

مجتمع العمالة، كما ورد في بعض الأدبيات، يعني مجتمع عمالي لكسب معيشته اليومية مع تنمية طاقاته من خلال التدريب (والتون 1: 1999). في المقابل، يبدو أن الفلسفة العمانية تتحرر من هذا المفهوم الضيق للتعليم والتدريب، حيث قرن العمانيون المعرفة بالعمل عبر التاريخ، فكانوا قوة بشرية فاعلة أمتد تأثيرهم عبر العالم كتجار وبحارة وتربويون. كان العمانيون ولازالوا مجتمع متعلم ومحب للمعرفة. إنه مجتمع يقدر العلم والعلماء، ويتضح هذا جلياً من خلال الكتب الكثيرة التي نشرت حتى في فترات الانغلاق قبل النهضة المباركة. ومن مبدأ الماضي العريق إلى المستقبل المشرق فإن فكر تنمية الموارد البشرية في عمان، كما سيتضح لاحقاً، يحوي في طياته أبعاد أعمق من الكسب المادي البحت تتمثل هذه الأبعاد في تنمية القيم المجتمعية، وتنميته في الجوانب الثقافية والمعرفية. ويصف بليخانوف، مؤلف كتاب مصلح على العرش، (2004) الفكر السامي في هذا الجانب قائلاً: “كانت في فكره (جلالة السلطان) أن كل شيء ذو قيمة من الماضي يستحسن بأن يؤتي به للمستقبل” (ص 254).

وبما أن المجتمع هو أساس التنمية تبقى فاعلية دوره مرهونة بمدى استهداف التنمية للفرد ككل، والاهتمام بالتعليم كونه جوهر سياسة التنمية الشاملة للفرد العماني. ففي أدبيات تنمية الموارد البشرية فإن تركيز سياساته تنصب على الجوانب الاقتصادية مع قليل من الالتفات إلى الأبعاد الإنسانية في مفهوم التنمية. ويذكر تقرير التنمية البشرية العماني عام (2003) أن مفهوم التنمية البشرية ظهر كرد فعل للتجارب التنمية التي ركزت على النمو الاقتصادي وأغفلت الكثير من الأبعاد الإنسانية للتنمية (ص7). وحسب التقرير ذاته أن التنمية هي التنمية الإنسانية الشاملة تعني بعدة مجالات كالصحة والتعليم بجانب الكثير من الأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وعمان إذ ركزت على تنمية الموارد البشرية فمفهومها لتنمية مواردها البشرية لم يغفل الأبعاد الأخرى في مفهوم التنمية. ورغم شيوع استخدام لفظ تنمية الموارد البشرية فإن الهدف هو تحقيق التنمية الشاملة للفرد من خلال تنوير البصيرة بالمعرفة والعلم والتدريب. أما التركيز على مصطلح “تنمية الموارد البشرية” يتوافق مع حقيقة أخرى، ألا وهي حسب رأي المفكرين أنه: “في كل مجتمع يمر بفترة تغيير جذري فإن الآراء ستختلف حول فحوى وسرعة التغيير المنشود. وعندما تسود وجهة نظر راديكالية فإن التغيير الاقتصادي يصاحب التغير السياسي والتحول الاجتماعي. وعندما يكون لمحبذي منهج ما اليد العليا فإن التغيير أولاً يؤسس في المجالات الاقتصادية” (بليخانوف 255: 2004). لكن بقيت التنمية في عمان تتسم ببعد القيم، فعمان تدرك تماماً الفرق بين التنمية البشرية وتنمية الموارد البشرية في مفهومها السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فمفهوم التنمية البشرية ممكن أن يكتسب معناه من البيئة المستخدم فيها. وفي الأدبيات يعرف بأنه: “كل الطرق الرسمية وغير الرسمية التي يتعلم من خلالها الأفراد” (توماس 16: 1971). ويضيف على ذلك أن “التنمية تعني بتطوير الأفراد ومساعدتهم على العمل سوياً في مجموعات لتحقيق غاية محددة. وفي رأيي، مفهوم كهذا بالطبع يسعى إلى تحقيق العناصر التي تغلب المصلحة العامة للمجتمع كالوعي والترابط المجتمعي، والعناية الصحية وكسب المعرفة. لذلك التفرقة بين المصطلحين صعب لأن التنمية البشرية وتنمية الموارد البشرية يشتركان في كثير من المعاني. لكن يستخدم مصلح تنمية الموارد البشرية عندما يراد التركيز على البعد الاقتصادي في التنمية. وهذا مدفوع، حسب رأيي، بالسعي نحو الرفاهية الاقتصادية وضمان العيش الكريم. فمبدأ محدودية الموارد المادية وعدم محدودية الإبداع الإنساني صحيحاً. وإذا علمنا بأن ذلك الإبداع الكامن في الطاقات البشرية يحسن من خلال تنميته، فإن تنمية الموارد البشرية تصبح ضرورة لكل الشعوب.

إذن عندما يستهدف ما يعرف بعض الأحيان بثروة الأمم “الموارد البشرية” بالتنمية، فإن ذلك بسبب تأثيره على المصلحة العامة للفرد ذاته وللمجتمع. بمعنى آخر أن التنمية البشرية مهمة لمجتمع صحي وتنمية الموارد البشرية تعنى أكثر بالإنتاجية، وفي كلتا الحالتين فإن التعليم يعد دائماً هو محور التنمية، فهو أداة لتحقيق غاية، وليس غاية في حد ذاته. ورغم صحة وضرورة تأسيس التغيير المنشود على قاعدة اقتصادية، كما يرى الكاتب أعلاه، فإن الفلسفة العمانية في مجال تنمية الموارد البشرية تدرك بأن التنمية بالموارد المالية لوحدها لا تكفي، وإنما تتطلب النهوض بالثروة الحقيقية للشعوب ألا وهي الموارد البشرية، وفي هذا الإطار يخاطب جلالته شعبه بمناسبة العيد الوطني في عام 1992 فيقول: “تعلمون مدى اهتمامنا بتطوير الموارد البشرية، وتحقيق فرص أكثر وأفضل لأبنائنا الشباب في التعليم والتدريب والتوظيف، بحيث يكاد يكون هذا بنداً ثابتاً في كل خطاب نتوجه به إليكم، ومن خلالكم إلى جميع أهل عمان، ولا غرور في ذلك، فالإنسان هو قاعدة البناء الحضاري، وأصله الأصيل، وبدونه لا تقوم حضارة يرجى لها التطور والاستمرار. لذلك فإننا نجدد تأكيدنا على هذا الجانب من جوانب تطوير المجتمع وتحديثه” (ص2). وفي خطاب عام 1993 بمناسبة العيد الوطني للبلاد حدد جلالته بعض جوانب التنمية المطلوبة في الشباب العماني، حيث قال: “لكن الهدف السامي المتوخى من هذا العام هو التذكير والتنبيه والتوجيه الصريح القاطع بأن يكون الشباب دائماً في صميم اهتماماتنا لا نغفل ولو طرفة عين عن النهوض به فكرياً وعلمياً، وثقافياً، ورياضياً، وفنياً وتقنياً. فبارتقاء الشباب في كل هذه المجلات ترتقي حياة المجتمع وتزدهر، وينمو الاقتصاد الوطني، وتجد الزراعة والصناعة والتجارة طريقها إلى التطور والتقدم. مما يؤكد الأثر المتبادل الذي تحدثه التنمية المتوازنة، ويؤدي إليه التطوير المتكامل”.

بذلك تكون الخطب السامية لجلالة السلطان قد قرنت المعرفة بالعمل، حيث يقول جلالته “إن العلم والعمل أمران متلازمان لا يستغني أحدهما عن الآخر: فبمها معاً تبني الأمم أمجادها، وتعلي بنيان حاضرها ومستقبلها، وبهما معاً يحقق الإنسان ذاته، ويصل إلى ما يبتغيه من عيش كريم، وحياة مستقرة، وغد باسم بالأمل والرجاء. ونحن على يقين بأن المجتمع العماني على وعي تام بهذه الحقيقة (من خطاب جلالته أمام مجلس عمان، 2006). وخطاب جلالته في عام 1996 بمناسبة العيد الوطني وضع النقاط على الحروف حول فلسفة تنمية الموارد البشرية، حيث قال: “إنه لمن الجلي الواضح أن الدولة تولي اهتماماً بالغاً لتنويع الاقتصاد الوطني، وتوفير فرص العمل والتدريب للمواطنين. غير أن ذلك لا يعني كل شيء في مضمار ما نسعى إليه من بناء الإنسان العماني وإعداده للمستقبل، إذ أن هذا البناء والإعداد لا يتمان، في نظرنا، بمجرد توفير الرفاء المادي، والرخاء الاقتصادي، والتدريب المهني الذي يؤهل الفرد لشغل وظيفة ما في الحكومة أو القطاع الخاص، وإنما لابد إلى جانب كل ذلك، من اتخاذ كل الوسائل الكفيلة بتربية المواطن تربية صالحة، وإمداده بالعلم والثقافة، وتهيئته بصورة متكاملة وشاملة تجعل منه عنصراً منتجاً في مجتمعه، مدركاً لما فيه صالح أمته، ذا بصيرة نافذة وتقدير سليم للأمور، ليتمكن بذلك من خدمة وطنه، ومن المشاركة في صنع القرار الصحيح على مستويات متعددة تختلف باختلاف موقعه في البنيان الاجتماعي”.

ثانياً: التعليم وتنمية الموارد البشرية: اتجاهات وأبعاد

المقولة الشهيرة لجلالة السلطان “سنعلم أبناءنا ولو تحت ظل الشجر” تعكس مدى التزام الحكومة بالتعليم منذ بدأ النهضة المباركة لما له من أثر على بناء الإنسان العماني والدولة العصرية كما أراد لها جلالته. كما أنها تحمل في طياتها إدراك بصعوبة المشوار إذا عرفنا بأن هناك كانت ثلاث مدارس يدرس بها حوالي 906 طالب فقط في البلد ككل. ولكن قوة العزيمة وأهمية التعليم للتنمية الشاملة وإدراك للعامل الإيجابي بأن العمانيين كانوا ولا زالوا محبي المعرفة وساعين لكسبها. فعبر التاريخ لم يرضى العمانيون بأن يكونوا مجرد يد عاملة رغم حبهم للعمل وكفاحهم الدؤوب لكسب العيش الشريف داخل البلاد وخارجها؛ ولترجمة هذا التوجه نحو التنمية الشاملة للفرد إلى واقع كان لابد من إيجاد نظام تعليمي متكامل وفاعل، وتسخر له كافة الإمكانات المتاحة. لذلك لم يغب عن منظور السلطنة أهمية هذا القطاع وتوجيهه الوجهة الصحيحة. هذه النظرة لدور التعليم في تنمية الموارد البشرية خير دليل على أن فلسفة تنمية الموارد البشرية في السلطنة تتحرر من بعدها الاقتصادي الضيق لتشمل التكوين الشامل للشخصية. وإن ركزت على البعد الاقتصادي، فذلك ناتج عن دور التعليم الحيوي في ذلك المجال، فليس هنالك من شك بأن التعليم يرتبط ارتباطاً إيجابياً بتحقيق مستويات معيشية أفضل. وفي دراسة أجرتها منظمة العمل الدولية في 111 دولة طوال 20 عاماً، أوضحت بأن سنة إضافية لمتوسط السنوات الدراسية يمكن أن تزيد من دخل الفرد بنسبة تتراوح من 5% إلى 15% (تقرير العمالة في العالم، 1998- 1999).

بالإضافة إلى ذلك، يؤثر التعليم في التنمية والإنتاجية وفي القدرة التنافسية للدولة طالما أن الاقتصاد يبني على المعرفة. وعليه، ظل التعليم دائماً العمود الفقري للتنمية في الدول المختلفة. ففي المملكة العربية السعودية يذكر الأمير عبد المجيد بن عبد العزيز “أن التحدي الذي يواجهنا ليس اقتصادياً فحسب بل فكرياً، وأن المهمات التي يتم التصدي لها لا تقتصر على بناء الأشياء بل تشمل أيضاً بناء الطاقات وتحرير العقول وبناء أكثر النظم الإدارية فاعلية” وفي نفس السياق يستعرض رئيس الوزراء الماليزي عبد الله بدوي تجربة بلاده في مجال التعليم الوطني الموحد على أنه المجال التنموي الإنساني الأهم في سلم أولويات الدول، موضحاً أن التعليم يفيد رأس المال الوطني الاستراتيجي الذي يمكن أن يحقق أقصى منفعة بأقل تكلفة ممكنة سواء في القدرة على استخدامه لرأس المال أو للموارد والثروات الطبيعية، أو تفعيله لعامل التقنية العلمية في العملية الصناعية وغيرها من العمليات التجارية والاقتصادية. (التدريب والتقنية، ص 8 العدد 74- أبريل 2005).

يلاحظ مما سبق بأن التعليم هو المرتكز الأول في تنمية الموارد البشرية، وأن مفهوم تنمية الموارد البشرية يتحرر في كثير من الأحيان من بعده المادي ليؤكد على أهمية التنمية الشاملة للفرد. في عمان، استخدمت خطط التنمية الخمسية (التي يبلغ عددها حتى الآن سبع خطط) عبارة “تنمية الموارد البشرية” لتشمل جميع أنواع التعليم وهي تتضمن التعليم الثانوي، والتعليم الفني والمهني، والتعليم بعد الثانوي، والتدريب المهني والوظيفي، والتعليم غير النظامي، والتعليم الإسلامي، والأنشطة الاجتماعية الترفيهية، ورعاية وتنمية الطفولة المبكرة، ….الخ. حيث ظلت التنمية الخمسية منذ انطلاقة فجر النهضة المباركة في عام 1970 تتصف بالشمول، وقد اعتبرت كل خطة منها وحدة عضوية متكاملة (التعليم للجميع، تقرير التقويم لعام 2000). إن هذه الأهمية التي حظيت بها تنمية الموارد البشرية نتج عنها زيادة في نسبة القوى العاملة العمانية في القطاع الخاص من 25% في عام 1990 إلى 35% وحوالي 95.5% في القطاع العام في عام 2000 (تقرير الموارد البشرية في سلطنة عمان، 2003: 23)، ورغم وضوح بعد التنمية الشاملة في مفهوم التعليم كمرتجز أساسي في تنمية الموارد البشرية لكن يبقى يحوي في طياته أبعاد أخرى وفق متطلبات مجتمعية أخرى قد تختلف بين قطر وآخر. لذلك سنتناول ثلاث نماذج أساسية في هذا الشأن تتعلق بموائمة التعليم، والتعليم للإبداع والتعليم من أجل الثقافة.

النموذج الأول: التعليم في عمان

بنهاية الخطة الخمسية الرابعة، أيقنت الحكومة بأن الوقت قد حان لمراجعة سياستها حيال تنمية الموارد البشرية وفق رؤية مستقبلية لاقتصادها، وعليه تم تنظيم الرؤية المستقبلية للسلطنة للعام 2020. وقد كان محور هذه الرؤية- دون شك- تنمية الموارد البشرية، ومرة أخرى تم تسليط الضوء على التعليم وتركزت المناقشات حول تأثير التعليم على تنمية الموارد البشرية، وتمخضت عن ذلك ولادة المشروع الأساسي لتطوير التعليم والذي بدأ العمل في العام 1997/ 1998 على عينة من التوسع التدريجي في 17 مدرسة. وتعطي وثيقة تطوير التعليم العام صورة واضحة عن أهداف ومضامين عملية تطوير التعليم الحالية: فوثيقة تطوير التعليم تقر بالتحديات وتضع الاستراتيجيات التربوية الضرورية لمجابهتها “إن التحديات التي تواجه السلطنة خاصة الحاجة للاكتفاء الذاتي ولتنويع مصادر الدخل ومواكبة التطور التكنولوجي يتطلب أهدافاً تعليمية جديدة لإعداد العمانيين للحياة والعمل في ظل ظروف من الاقتصاد العالمي الحديث. وهذا سوف يتطلب درجة عالية من الملاءمة. وإلمام قوي بالعلوم والرياضيات لأجل تطبيق ومواكبة التقنيات الحديثة المتسارعة الخطى لتلبية احتياجات السلطنة. وقد تم تصميم التطويرات التعليمية المقترحة لتحقيق المهارات الذهنية والمعرفية والسلوكيات التي سوف يحتاجها الشباب العماني لمواكبة المستقبل المتغير الذي سيواجه الكثير منهم (وثيقة تطوير التعليم ص 1).

يلاحظ مما ذكر بأن التوجه هنا يغلب عليه البعد الاقتصادي وبناء الشخصية المرنة للتعامل مع البيئات الجغرافية والعملية والثقافية والتكنولوجية بما يفرضه الواقع الحالي والمستقبلي للبلد. هذا الواقع تدعمه إحصائيات العمالة في المنطقة ومشاكل البحث عن عمل وتوطين الوظائف مما يجعل الجهود تنصب في قالب المواءمة. “في تقرير اقتصادي صادر عن مجلس الوحدة الاقتصادية التابع لجامعة الدول العربية يظهر تزايد حجم البطالة في البلدان العربية، حيث أصبح يتراوح بين 15 و 25% من حجم السكان العرب، منهم 60% من قطاع الشباب، وأشار التقرير إلى أن مشكلة البطالة تشكل خطراً كبيراً كونها تتزايد بمعدل 3% سنوياً، مبيناً أن عدد العاطلين عن العمل ربما يصل عددهم إل 50 أو 60 مليون ليصبح من أخطر وأكبر التحديات التي تواجه الدول العربية في الوقت الحالي “(مجلة التدريب والتقنية، العدد 74، أبريل 2005 ص 11).

النموذج الثاني: التعليم في اليابان

قوة النظام التعليمي في اليابان تكمن في التزام الطالب والقائمين على العمل التربوي، وعدم الانحراف والالتزام مرسخ من قبل ثقافة متوارثة بشيء من الحرفية ومؤطرة بقوانين سارية ولو على الإمبراطور رغم قدسيته للكثير منهم. فمثلاً ZEST FOR LIFE الوارد في أهداف التربية يعني الرغبة في التمتع بالحياة من خلال العمل الدؤوب للتعويض عن صغر البلد وقلة الثروات. لذلك تكرس التربية هذا المفهوم وتعمل في المقام الأول في ثقفنة الطالب وتنشأته وفق الفلسفة اليابانية في الحياة.

يذكرني بالمأثور “أعمل لدنياك كأنك مخلداً” مع فارق التشبيه من حيث عمق الفلسفة الإسلامية وتوازنها لكنها مع الأسف أصبحت كغيرها من القيم النبيلة جوفاء من حيث رسوخها في عقيدة الفرد. لذلك على التربية مسئولية البحث عن آلية لبناء ثقافة عقائدية يصدقها العمل. فإذا أخذنا اليابان كمثال فإن الهدف الأول للمدرسة هو الثقفنة على الطريقة اليابانية قبل التعليم لكن هل فعلاً نحن نعني بالتربية قبل التعليم عندما نقول التربية والتعليم؟ هل تمت مراجعة هذا المصطلح لتكون هي الركيزة لتحقيق الأبعاد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. إننا نحن للماضي مما تبقى من تربية السبلة عندما نرى سلوكيات لم تكن يوماً تتخيل، ضياع قيم الاحترام للكبير، الكسل والخمول، فقدان النظرة للجوهر وغيرها من مظاهر ما بات يعرف بإرهاصات المدنية، والسؤال لماذا تلك المظاهر قد تكون محدودة إن لم تكن معدومة في اليابان رغم تقدمها؟ لماذا يجيد طفل الروضة الياباني تقديم الشاي على طريقتهم المعقدة التقليدية ولا يعرف طفلنا حتى حمل كوب من الماء؟.

النموذج الثالث: تطوير التعليم في الولايات المتحدة الأمريكية

في تقرير صدر العام الماضي عن التعليم في الولايات المتحدة بعنوان “خيارات صعبة أم أوقات صعبة” يحدد أولويات التعليم والتدريب في المرحلة القادمة على إنها تنمية الإبداع البشري لتقديم خدمات ومنتجات نوعية وبأقل التكاليف كطريق وحيد نحو التغلب على المنافسة الخارجية في أداء أعمال. القطاعات المختلفة.

ثالثاً: التدريب: اتجاهات وأبعاد

أصبح من الضروري التعامل مع تنمية الموارد البشرية وفق مفهوم واسع غير مقتصر على التدريب والتأهيل وحدهما، وإن كان الاهتمام بالتدريب غداً كبيراً للمعالجات السريعة، لكنه أصبح يعبر عن مفهوم أوسع؛ ليشمل كل ما من شأنه أن يحقق تطويراً مهنياً؛ فتضمن التأهيل والتدريب، والتواصل مع الزملاء، والخبرة، والدراسة الذاتية، والممارسة التأملية، والبحوث الإجرائية وغير ذلك من الأنشطة المخططة وغير المخطط لها. كم أن أصبح يرتكز على دعامات للفاعلية تعني بالاستمرارية، وتنويع الصيغ، والموازنة بين الفرص داخل المؤسسة وخارجها (Fullan, 2002 Day, 1999) وقد أصبح من الضروري تفعيل هذه الأبعاد في خطط القطاعات المختلفة لتنمية الموارد البشرية.

من جانب آخر، تنمية الموارد البشرية يمكن أن تسخر للنمو المهني الشخصي وممكن أن تسخر لتجويد العمل وممكن أن تسخر لتطوير المؤسسة ككل. هناك بعض المناهج الإنسانية التي تدعو المؤسسات إلى إعطاء الجانب الشخصي اهتماماً أكثر على اعتبار أن للفرد حق على المؤسسة كما للمؤسسة حقوق على المنتسب إليها. وإن كان لهذا البعد في تنمية الموارد البشرية مردود غير مباشر على المؤسسة إلا أنه عادة ما يتم تجاهله في خطط تنمية الموارد البشرية. ومع تسارع التغيير والتنافس أصبحت خطط تنمية الموارد البشرية التي ترتبط بإستراتيجية المؤسسة، وكذلك تلك الرامية إلى تجويد الأداء هي التي يعول عليها إحداث التغيير المنشود (المنظمة العربية للتنمية الإدارية 27: 2007). أما ربط المسار التدريبي بالمسار الوظيفي هو الأمثل للتعامل مع ضرورات تحديد مسار تدريبي واضح للموظف وفق المسار الوظيفي المخطط له.

حضور والاستفادة من البرامج التدريبية:

الرغبة في تدريب الموظفين أثناء الخدمة قد تضاعفت في السنوات الأخيرة وذلك لضرورة المهنية في العمل والتقنية العالية للمنتج ذات القدرة التنافسية لكثرة التغيرات والتطورات بمختلف أشكالها وأنوعها في العملية الإنتاجية أو الخدمات. لذلك أصبح حضور البرامج التدريبية أمر ضروري وهام جداً لنجاحهم في عملهم، فحضورهم البرامج التدريبية يساعدهم أولاً على اكتساب مهارات التخطيط الجيد لإدارة شؤون عملهم، حيث يساعدهم في بناء استراتيجيات تنفيذ خططهم وتقويمها، ويطلعهم باستمرار على كل ما هو جديد متطور وعصري متعلق في مجال تخصصاتهم، مما يجعلهم يواكبون ذلك باستمرار. وهناك أمر هام وضروري جداً لحضور البرامج التدريبية، حيث يطلعهم على تجارب وخبرات بعضهم بعضاً، ويسهم في بناء العلاقات الاجتماعية فيما بينهم، كما ويساعدهم على تحقيق ذواتهم وعلى بناء شخصياتهم ويكسبهم الثقة بأنفسهم. ورغم تعدد مناهج وأساليب تنمية الموارد البشرية تبقى البرامج التدريبية الأكثر انتشاراً وضرورية لكسر الثقافة الداخلية الناتجة من تقوقع الفر في محيط العمل (داي، 1999).

تنمية الموارد البشرية على مستوى المؤسسة( المؤسسة المتعلمة)

تنمية الموارد البشرية على مستوى المؤسسة يعكس توجه ورغبة المؤسسات المختلفة في استقطاب كادر قادر على دفع عجلة التنمية البشرية بالإضافة لما لديها على رأس العمل ممن يعول عليهم النهوض بالعمل. لذلك كان لابد من التركيز على تحسين أداء تلك الفئة وسد الفجوة بين النظري والواقع عبر فرص التنمية المهنية أثناء الخدمة وتتميز بالتسامح والمرونة والانفتاح والمناقشة والحوار ونمو العلاقات المهنية بين الموظفين داخل المؤسسة في جو من الثقة والاحترام. تتبنى مؤسسات مختلفة هذا النهج من التطوير والتنمية بكونه واحداً من برامج تطوير الأداء وقدمت له العون المادي والمساندة المعنوية، وخصصت أياماً للتدريب والتنمية المهنية تنفذ خلالها أنشطة وبرامج تنمية مهنية متعددة ومتنوعة تأمل من خلالها ترسيخ الشعور بالانتماء وتخفيف حدة الضغوط النفسية التي تزخر بها الحياة المؤسسية كما تدعم النسق القيمي المشترك. هذا المشروع التجديدي الذي ينسجم وفق أحدث النظريات والأفكار التربوية الحديثة المطبقة في كثير من دول العالم أصبح أحد الأدوات التي يعول عليها التحول إلى مؤسسات متعلمة.

تشجيع البحث والنشر

تشير البحوث التربوية المتعلقة بتطور ورفع كفاءة العمل بأنها على حد كبير تعتمد على قدرة الفرد على التأمل، وعلى ممارسته لطريقة الاستقصاء لحل المشكلات التي قد تعترض عمله (Hargreaves, 1994, Fullan, 2002). لذلك لابد من توفير المناخ المناسب للقراءة، والبحث، والنشر، وتنشر هذه الثقافة بين منتسبي القطاعات المختلفة عن طريق تشجيع البحث الذي يربط مفهومه بالمسائل العملية الواقعية، تلك المسائل والمشكلات التي تنشأ من الممارسات الروتينية اليومية. وهو يهدف أساساً إلى تحسين الممارسة من خلال دراستها بشكل واع ومنهجي من قبل الممارس نفسه. وبالتالي فإن أهم ما يميز هذا النوع من البحث هو أنه عملي، واقعي، ومستمر باستمرار الممارسة وتطورها ويتولى القيام به الممارس نفسه وليس شخصاً آخر.

الممارسة التأملية:

إنه من أجل تحسين أداء الموظف في مؤسساتنا ينبغي أن نغير سلوكيات الكوادر العاملة نحو الطرق التي نسعى من خلالها لإحداث التغيير، والشكل الجديد الذي ننشده للتغيير هو الإنماء المهني الذي ينبع من ذات الموظف، ويبدأ من داخل المؤسسة. إن التنمية المهنية الصحيحة والسليمة للموظف تتطلب الاستفادة القصوى من مكان عمله في مؤسسته، وأحد أشكال النمو المهني داخل المؤسسة هو الممارسة التأملية. تركز الممارسة التأملية على الفرضيات والنظريات التي يؤمن بها الموظف، وعلى الممارسات التي ينفذها. ومن هنا يبدأ التطوير والتغيير، فما لم تتغير الفرضيات والقناعات الخاصة فلن تتغير الممارسات، وبالتالي لن تتغير المؤسسات إن لدى الموظف فرضيات كثيرة متجذرة لم تتعرض من قبل للفحص والمراجعة والاختبار. وهذه الفرضيات هي التي توجه أنماط السلوك المختلفة. ومن أجل التغيير والإصلاح يجب على الموظف أن يراقب بوعي فرضياته وممارساته ويفحص سلوكياته.

العملية التأملية مدخل غير تقليدي للتطوير المهني تتطلب إدخال مفاهيم جديدة في التدريب والتوجيه، إنها منهج فعال للتطوير وطريقة متكاملة للتفكير والفعل تركز على التعلم من خلال التجربة، وتهدف إلى إيجاد موظفين يمارسون ويعملون وفي الوقت نفسه ينقدون ويراجعون ويفحصون عملهم أي يقيمون ذواتهم وبالتالي فهم يتعلمون وتزداد خبراتهم وتتطور ممارساتهم. تماماً مثل التمثيل في الدراما فهو من ناحية يقوم بالعمل وهو من ناحية أخرى ينتقد سلوكه كما لو كان يجلس بين الجمهور. وهكذا فإذا كان أرقى أنواع التعلم أن يتعلم الطالب كيف يتعلم بإرشاده إلى أساليب التعلم الذاتي، فإن أرقى أنواع التنمية المهنية للموظف هو أن يتعلم كيف ينمي نفسه، ويطور أداءه، وكيف يحل مشكلاته المهنية.

الدراسة الذاتية:

تعد الدراسة الذاتية للموظف أحد المتطلبات الأساسية لنجاح الممارسة التأملية. فالممارس المتأمل هو ذلك الممارس الذي يسعى دائماً نحو فهم ممارسته ليس من خلال تدبر ممارسته الشخصية فقط بل من خلال دراسته لتجارب وخبرات الآخرين كذلك. يرى أوسترمان وكوتكامب (2002) أن الممارسين قد يجدون “معلومات ذات علاقة في الدراسات البحثية أو في النشرات والورش الأخرى أو في دراسة رسمية” (ص 50).

هذا الأمر يجعل من توافر الموارد اللازمة للدراسة الذاتية في البيئة المحيطة بالموظف مسألة حيوية ومهمة للغاية من خلال توفر الإصدارات الحديثة في ذات المجال. كما تتطلب الدراسة الذاتية الموارد اللازمة لتحقيقها، فإنها تتطلب كذلك وبدرجة أكبر امتلاك الموظف لأدوات الدراسة الذاتية. وذلك لأن المسالة تتجاوز مجرد قدرة الفرد على القراءة إلى القدرة على جمع المعلومات (بشتى صورها) والتعامل معها بصورة علمية منهجية قد لا تتوفر لدى العديد من العاملين. وهذا يعني أن يكون الموظف متمتعاً بكفايات البحث العلمي ومدركاً لمناهج البحث وقادراً على التعامل مع التقانات الحديثة المتمثل في الوسائط المتعددة ومواكباً لتطوراتها. وتكمن أهمية الدراسة الذاتية في أنها تمثل البنية التحتية الضرورية لبناء المتعلم مدى الحياة الذي تسعى الأنظمة التعليمية إلى بنائه في هذا العالم الذي أصبح فيه التعلم مدى الحياة شرطاً أساسياً للنجاح (اليونسكو، 1996، ص 85).

بناء قنوات اتصال:

القدرة على التواصل مع الآخرين تعد من أهم الأدوات التي ينبغي أن يتمتع بها الموظف لكي يكون ناجحاً في عمله. فهناك دراسات أجريت في بعض الدول المتقدمة تشير إلى أن التواصل على مستوى المؤسسة الواحدة أكثر فاعلية في النمو المهني من الدوريات والمجلات والنشرات المتخصصة، فمن خلال التواصل بين العاملين تنتقل الخبرة التدريبية أو الوظيفية من شخص إلى آخر. وترتبط فكرة التواصل هذه بمفهوم “الصديق الحميم” في المؤسسة فيتعلم أحدهما من الآخر بصورة مباشرة أو غير مباشرة. والعلاقة بين هذين الموظفين على أساس “شركات عملية يدخل فيها كل منهما على أنهما متساويان ويرتبطان بمهام واهتمامات مشتركة. ودور كل منهما هو أن يدعم الآخر في جو تسوده الثقة المتبادلة” (داي، 1999، ص 44). هذه العلاقة تختلف بطبيعة الحال عن العلاقة بين الموظف والمدرب أو الموظف والمشرف على العمل التي غالباً ما يسودها جو من التوتر بسبب الأدوار المختلفة التي يؤديها المدربون والرؤساء بالنسبة للموظف.

هذه الأهمية للتواصل تضع على عاتق إدارات المؤسسات والجهات المعنية مسؤولية إيجاد المناخات المناسبة لتحقق التواصل الفعال بين منتسبي تلك المؤسسات. ويأتي في طليعة ذلك إكساب الموظف كفايات ومهارات التواصل الفعال عن طريق محفز نقاش أو ملتقيات نقاشية.

الخاتمة

في ضوء المحاور التي تناولتها هذه الورقة يبدو جلياً بأن تنمية الموارد البشرية تمر بمرحلة انتقال نوعي في تطوير العمل بما يتناسب وطموحات القطاعات المختلفة الناتجة عن استشراف آمال المستقبل وما يتطلبه من تنمية الموارد البشرية. وبما أن أهم عناصر نجاح المؤسسات هو وجود الكادر القادر على التعاطي مع خصائص واحتياجات الوظائف المختلفة، تطرح الورقة ضرورة تناغم الموظف مع المهام الموكلة والطموحات المرجوة منه. يبدأ نظام تطوير الموارد البشرية بتنمية النشء المتكامل من مراحل التعليم وينتقل به وفق نماذج تعليم مستمر أثناء الخدمة وفقاً لما تقتظيه مصلحة العمل.

قائمة المراجع

أولاً: المراجع العربية

  • الدكتور عبد الرحمن صالح (1996). دراسات في الفكر التربوي الإسلامي. دار البشير. دار الرسالة. بيروت.
  • الدكتور ميلود زيان (2003). التعليم الفعال وأثره في حل المشكلات. مجلة التربية القطرية ص 142- 162.
  • وزارة الإعلام (2007). الخطب السامية لجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم 1970- 2006. http://www.omanet.om/arabic/hmsq3.asp?cat=hmsq
  • الخطة القطاعية للتعليم والتدريب في الخطة الخمسية السادسة 2001- 2005. عمان. (مايو 2000).
  • تقرير الموارد البشرية. ملخص تنفيذي (2003). عمان.
  • عبد الرازق (1987). تقييم المناهج. المرحلة الابتدائية. الجزء الأول.
  • وزارة التنمية (1995). الرؤية المستقبلية للاقتصاد العماني. عمان 2020.
  • وزارة التربية والتعليم (2003). فلسفة وأهداف التعليم في السلطنة.
  • وزارة التربية والتعليم (2005). ملخص الإحصاءات التعليمية للعام 2004/ 2005. دائرة الإحصاء التربوي.
  • وزارة التربية والتعليم (2006). تقرير إنجازات الإنماء المهني. دائرة تنمية الموارد البشرية.

ثانياً: المراجع الأجنبية

  • Fullan, M. (2001) The New Meaning of Educational Change (3 rd edition). London: Cassell.
  •       Day, C. (1999) Developing Teachers. The Challenges of Lifelong Learning. London: The Falmer Press.
  • Day, C. (1997) Teachers in the Twenty-First Century: Time to Renew the Vision, in Hargreaves, A. and Evans, R. (eds) Beyond Educational Reform. Bringing Teachers Back. Buckingham: Open University Press, pp. 44-61.
  • Lord Desi (1997) Investing in Human Development, in Day, C., Veen, D. and Sim, W-K (eds) Teachers and Teaching. International Perspectives on School Reform and Teacher Education. ICET: Garant, pp. 19-22.
  • Al-Hinai, Ahmed (2002) Human Resources Development within an Era of Educational Reform. A Phd thesis. University of Nottingham.
  • Ministry of Education (2000) EFA Evaluation Report. UNESCO.
  • Ministry of Education (1996) The National Report of the Sultanate of Oman Presented to the International Conference of Education. Geneva.
  • Ministry of Education (1995) Education Reform and Development Consultancy Study. Oman.
  • Plekhanov, S. (2004) A Reformer on the Throne: Sultan Qaboos bin Said Al-Said. Trident Press Ltd.London.
  • Thomas, H. and Patten Jr. (1971) Manpower Planning and the Development of Human Resources. New York: Wiley-Interscience.

الأكثر رواجًا